أخر الاخبار

عائد من المشرحة

 أحمد الحو العائد من المشرحة

 المعطي منجب

إنه عنوان كتاب شيق وشهادة شخصية بل وفي بعض جوانبها حميمية. هذه الشهادة وهي بالغة الأهمية التاريخية والإنسانية حررها أحمد الحو. إنه مغربي في الستين من عمره وهو أحد الناجين، أو العائدين ما يقول، من سنوات الجمر والرصاص التي طبعت مغرب الحسن الثاني. يستحضر الكاتب في شهادته هذه السنوات المريرة عبر مساره الشخصي. فقد حكم عليه بالإعدام بسبب كتابته شعارات نارية، وهو شاب يافع مسالم، ضد نظام الحسن الثاني. تم اعتقاله وتعذيبه بشكل وحشي. قضى الكاتب بالسجن خمس عشرة سنة (1983 ـ 1998). كان يرى رفاق محنته يغادرون السجن واحدا تلو الآخر، أما هو فقد عوقب لرفضه طلب العفو الملكي ولمساهمته الدائمة في تنظيم مقاومة معتقلي الرأي بالسجن عبر العديد من الإضرابات عن الطعام والتي تجاوزت أحيانا الشهر. سيوزع الكتاب بالمغرب. وأحمد الحو مثقف وفاعل مدني يتموقع بين الاتجاه الإسلامي واليسار كبعض قدماء الإسلام السياسي الذين اقتنعوا أو عمقوا اقتناعهم بالديمقراطية وقيمها وهم بالسجن بسبب من أن أغلب من دافع عنهم بالداخل والخارج هم حقوقيون وديمقراطيون لا يشاركونهم لا نفس الاعتقادات ولا الأهداف السياسية. ولكن والحق يقال أحمد الحو كان من السباقين بين الشباب الثوري-الإسلامي أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات إلى محاولة العمل ضد النظام يدا في يد مع مناضلي اليسار.

الكتاب في أغلبه عبارة عن لوحات أليمة من الحياة اليومية لمعتقل سياسي. هناك أحيانا لحظات مشرقة وبالغة الآدمية وأخرى تشبه في حبكها أفلام الرعب، كمحاولة رفيقين له الهروب من السجن المركزي بالقنيطرة حيث قضى أغلبية مدة حبسه. يذكر أحمد الحو أنه ورفاقه سمعوا سنة 1986 على أمواج إذاعة فرنسا الدولية عن فرار دبرته زوجة خطيرة لسجين خطير من فوق أسطح سجن لاسانتي بباريس عبر طائرة هيلوكبتر جلبتها الزوجة التي لم تطق فراق حبيبها.

وهو ما دفع حسب الكاتب ش.أً لطرح سؤال: «لماذا لا نفكر نحن أيضا في الهروب من هذا السجن البغيض؟ كان ش.أ دوما ناقما… وهو الذي حكم بالإعدام في قضيتنا ولم يكن قد أتم ربيعه التاسع عشر. كان دائم الاكتئاب بل كان أحيانا يضحك لوحده ضحكا هستيريا وتارة أخرى يبكي بكاء مرا. كان يقول إن وجودنا المؤقت بحي المصحة فرصة نادرة للقيام بعملية الهروب… وفي ليلة 24 ديسمبر/كانون الأول 1987 تفاجأت فجرا ومن معي بسماع لعلعات الرصاص المتتالية وصفارات الإنذار وكأننا في حرب… بدأت تتناثر الأفكار في رأسي وظننت أنها آخر اللحظات في حياتي وقلت قد حان أوان إعدامي خاصة أن الإعدام يتم بالرصاص وقد ينفذ بساحة السجن… (وفي الحقيقة) فإن ش.أ وصاحبه قد قاما بمحاولة فرار حيث تمكنا من الحصول على منشار خبئ بعناية في علبة تيد (مسحوق الصابون) توصلا بها من طرف أحد أفراد العائلة… و استطاعا بواسطتها نشر قضبان النافذة المؤدية إلى ساحة خلفية والتي هي الأخرى تؤدي إلى الممر المؤدي الى جدار عال يجب اجتيازه للخروج خارج السجن. ولأنهما كانا على دراية بوجود كلاب مدربة قد تكشفهما في أي وقت، فقد باغتا الحارس المكلف بالمراقبة فاستوليا على سلاحه الرشاش ولباسه بعد أن أشبعاه ضربا وأحكما وثاقه.


هذه الشهادة وهي بالغة الأهمية التاريخية والإنسانية حررها أحمد الحو. إنه مغربي في الستين من عمره وهو أحد الناجين، من سنوات الجمر والرصاص


ارتدى ش.أ لباس الحارس حتى تعتقد الكلاب أنه حارس فلا تقرباهما، ولما حاولا تسلق الجدران انقطع الحبل ولم تجد المخالب زاوية حادة تعلق بها لأن أعلى الحائط دائري… عمدا إلى خطة انتحارية ستكلفهما غاليا حيث توجها إلى باب خارجي يؤدي إلى ساحة الإدارة وهنا باغتا حارس الباب الكبيرة وسحبا مسدسه وطلبا منه تسليمهما مفاتيح باب السجن إلا أنه باغتهما ورماها فوق السطح لتكون كل فرص الفرار قد انعدمت. عندها ومن موقف اليائس لم يملك ش.أ رباطة جأشه فافرغ الرشاش في جسم الحارس فأرداه قتيلا، وكانت تلك هي لعلعات الرصاص التي سمعناها».

يحكي أحمد الحو لحظات أقل عنفا من هذه، لحظات تعبر عن تلك الروابط الإنسانية العميقة التي تتأصل عبر السنين بين معتقلي الرأي مهما كانت خلفياتهم الفكرية. ولنصغي إليه يروي لقاءاته مع القائد الماركسي اليهودي السرفاتي الذي بقي في السجن رغم الإفراج عن الأغلبية الساحقة من أفراد مجموعته ورغم أنه الأكبر عمرا ومن بين الأسوأ صحة. يقول المؤلف إن النظام قرر في الأخير نفي السرفاتي إلى فرنسا ليرفض السجين مغادرة زنزانته مهددا بإشعال النار فيها والموت بها إن حاول أحد إخراجه منها بالقوة. «وبعد مفاوضات وتدخل من محاميه وبعض أصدقائه قرر الخروج وحُمل من السجن إلى المطار لينفى إلى فرنسا. وقد اعتبرت وزارة الداخلية في بيان لها أنه مواطن برازيلي(كذا ) مجردة إياه من جنسيته المغربية». وهنا لا بد من القول أن أبراهام السرفاتي مغربي قح كما كان قد شارك وهو في العشرينيات من عمره في الحركة الوطنية من أجل استقلال المغرب فنفته سلطات الحماية الفرنسية خارج البلاد. يتابع أحمد الحو شهادته عن المناضل اليهودي: «كان يلقب بمانديلا المغرب…قضى أزيد من 17 سنةً بالسجن منها 14 شهرًا تحت تعذيب همجي بدرب مولاي الشريف. وإذا كان رفاقه قد رُبطوا بحبال أثناء حصص التعذيب فهو رُبط بأسلاك كهربائية إمعانا في تمزيق جسمه، مما أحاله إلى هيكل مشلول لا يتحرك إلا على كرسي كهربائي. لقد حظيتُ بلقائه أكثر من مرة…كان يسرق لحظات ويزورنا ويوصينا بالمرونة ويأخذ بياناتنا هو ورفاقه لتكسير الحصار حولنا. كان بحق هو وزوجته كريستين أول من فتح قنوات الاتصال بيننا وبين منظمات حقوقية فرنسية…وكنت أشعر وهو يحادثني أنه رجل النضال والتسامح وكان دائما أثناء لقائنا يؤكد على وقوفه الراسخ مع القضية الفلسطينية ويؤكد على أن الصهيونية مناقضة لليهودية وأن اليهودي المغربي لا يفرط في مغربيته وأنه نشأ في كنفها مرتبطة بروح الأخوة الإسلامية (المغربية)… ورغم معاناته كان يبث فينا الحماس وقيم التسامح».

وقبل الختام يحكي المؤلف عن مصير بعض من عذبوه هو ورفاقه داخل السجن إذ إن منهم من مات بالشارع شحاذا مشردا، ومنهم من أصيب وهو في عز العمر بأمراض خطيرة بالغة الإيلام والإنهاك.


كاتب مغربي

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -