أخر الاخبار

رسالة القرن: الحسن الثاني

رسالة القرن: الحسن الثاني

وجه جلالة الملك أمير المؤمنين الحسن الثاني، كما هو معلوم –رسالة سامية إلى الأمة الإسلامية مطلع القرن الخامس عشر الهجري أجمع الملاحظون في الداخل والخارج على أهميتها القصوى باعتبارها منهج عمل طرحه العاهل الكريم في الوقت المناسب إسهاما منه في إيجاد حلول لمشاكل العصر وتقديم بدائل للأمة تكون لها عونا على الخروج من طور التخلف والتيه والضياع. ولقد نشرت ترجمات متعددة للرسالة الملكية، وكان لها الوقع الحسن في عدد من العواصم الإسلامية.واستقبلها القادة والعلماء والمفكرون وجمهور واسع من المهتمين بقضايا الإسلام والمسلمين بما هي جديرة به من عناية واهتمام وتقدير. واعتبرها الجميع وثيقة تاريخية وميثاق عمل وخطة مرحلة هامة من مراحل تاريخ أمتنا.

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله.

من عبد الله المعتمد على الله المتوكل عليه في سره ونجواه أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين.

أعز الله أمره، ورفع قدره، وخلد في الصالحات ذكره إلى أبنائه المغاربة خصوصا، وإخوانهم المسلمين في جميع أقطار الأرض عموما.

وفقكم الله وهداكم، وجعل فيما يرضيه محياكم ومماتكم، وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فقد شاءت الأقدار الإلهية، والعناية الربانية، أن نحيى وتطول أعمارنا، حتى نشهد فترة حاسمة في تاريخ أمتنا وحياة ملتنا قلما يشهدها الجميع، ألا وهي نهاية القرن الرابع عشر الهجري الذي كان مليئا بالمكايد والمغامرات، وبداية القرن الخامس عشر الهجري الذي يلوح في الأفق أنه سيكون مليئا بالتحديات والمفاجآت، ولا شك أنه ما من أحد من خاصة المسلمين وعامتهم الذين شهدوا هذا الحادث التاريخي السعيد، إلا وهو مدعو للتأمل في الماضي القريب والبعيد، تأملا دقيقا، ومطالب بالنظر في الوضع الحاضر نظرا فاحصا وعميقا، إذ بدون مراجعة للماضي ونظر في الحاضر لا يمكن التطلع إلى آفاق المستقبل، واستشراف ما يتوقع فيه من وقائع وأحداث تنعكس آثارها على مسيرة الإسلام وحياة المسلمين.

وقد أرشدنا كتاب الله إلى أن في تداول الليالي والأيام، فضلا عن توالي السنين والأعوام، عبرا ومثلا ينبغي استخلاصها والاستنارة بها للسير قدما إلى الأمام، فقال تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) سورة الفرقان، الآية: 62، فمن وجد خيرا حمد الله وشكر، ومن وجد غيره تدبرا واعتبر، وأصلح ما فرط منه فيما مضى وغبر.

وامتثالا لما نصت عليه الأحاديث النبوية الشريفة من أن الدين النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وأن النصح لكل مسلم شرط أساسي في صحة الانتماء إلى الإسلام "وأن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" وأن كل مسلم ذكرا كان أو أنثى، صغر شأنه أو كبر، يعتبر راعيا ومسؤولا عن رعيته، كل في دائرة اختصاصه ومسؤوليته، وتجديدا لتقليد شريف متعارف عليه منذ عهد أجدادنا المنعمين، ملوك المغرب الميامين، كلما انتهى قرن، وبزغ فجر قرن جديد، رأينا من الواجب علينا، بصفتنا قائدا من قادة المسلمين وأميرا من أمراء المؤمنين، أن نتوجه في هذه المناسبة التاريخية الفريدة بالنصح الخالص والإرشاد، إلى أبنائنا الأوفياء في هذه البلاد، وإلى إخواننا المؤمنين الأعزاء في بقية البلاد. فقد حض كتاب الله كافة المؤمنين على أن يتواصوا بالحق حتى يتجنبوا الوقوع في مزالق الباطل، وأن يتواصوا بالصبر حتى يواجهوا بعزم وحزم جميع التحديات والأزمات لا يبخلوا في سبيل نصرة ملتهم، والدفاع عن أمتهم، ببذل أقصى الجهود وأعظم التضحيات. قال تعالى: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) سورة العصر.

معاشر المسلمين

إن من مِنن الله على خلقه ورحمته بهم أن بعث فيهم سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه برسالة إلهية هي خاتمة الرسالات، تهديهم إلى محجة الصواب وتفتح لهم من وجوه الخير والبر كل باب، فأدى الرسالة، وبلغ الأمانة، وترك من بعده كتابا محكم الآيات، من تمسك به لم يضل، وسنة وثيقة الأسانيد والروايات، من اقتفى أثرها لم يزل. واقتضت حكمة الله أن يضع على عاتق خلفاء المسلمين وأمرائهم أمانة خلافته في الأرض فجعل بذلك على رأس مهامهم مسؤولية الذود عن الشريعة والحفاظ على الدين وحماية المجتمع الإسلامي من كل زيغ أو ضلال مبين. وقد امتاز المغرب الإسلامي بتعاقب ملوك بررة جعلوا الحفاظ على الإسلام والدفاع عنه فيما وراء البحار، ونشره فيما جاوره من الأقطار مهمتهم الأولى، وتثبيت تعاليمه في النفوس غايتهم المثلى، ومن بينهم ملوك شرفاء من آل البيت الكرام، في طليعتهم أسلافنا الملوك العلويون المنعمون في دار السلام.

ومنذ ولانا الله أمر هذا الجانب الغربي من دار الإسلام ضاعفنا الجهود لتعزيز جانب الدين في كل حين، ولم ننقطع عن العمل المتواصل لبعث حيويته وتجديد معالمه وإبراز محاسنه للموافقين والمخالفين، اقتداء بصاحب الرسالة وخاتم النبيئين عليه الصلاة والسلام، وإيمانا منا بأن دين الحق لابد أن يبقى ظاهرا مستمرا على مر الأيام مصداقا لقوله تعالى: (ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا) سورة الفتح 28.

معاشر المسلمين
لقد أكرمنا الله بدين متين الأساس راسخ البنيان، صالح لكل زمان ومكان ما من شعيرة من شعائره، ولا شريعة من شرائعه، إلا وهي مؤسسة على تقوى من الله ورضوان، فهو دين يقرر "كرامة الإنسان"، ولا يرضى له بالتعرض للذل والهوان وهو دين العلم والحرية، الذي لا يعرف التحفظ ولا التقية، يدعو أتباعه دعوة ملحة إلى تعلم العلوم والفنون واللغات، ويسمح لهم بالتفتح على جميع أنواع الحضارات، إذ بذلك ينالون أسباب القوة والخلود، ويتفادون أخطار الجمود والجحود، وهو دين الوفاء بالعهود، والعدل الوارف الظلال والإحسان الشامل للوجود، وهو دين تقوم تكاليفه على أساس الرفق والتيسير، ورفع الحرج والبعد عن كل تعسير، وهو دين يعامل الناس بالإنصاف والسوية، ويلزم بالشورى بين الراعي والرعية، ويحذر المسلمين من التنازع المؤدي إلى الفشل، ويحضهم على وحدة الصف والهدف والعمل، فبالوحدة يجمعون أمرهم، ويتغلبون على الصعاب التي تعترض سيرهم، ويتمكنون من استيناف البناء والتشييد، والإصلاح والتجديد، في عالم الإسلام الواسع المديد، وإذا جمعت المسلمين كلمة التوحيد وربطتهم شريعة الإسلام، فلا خوف عليهم من غوائل الدهر، ومفاجآت الأيام. قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به، لعلكم تتقون) سورة. الأنعام 153.

معاشر المسلمين
من حقنا أن نحمد الله حمدا كثيرا، ومن واجبنا أن نشكره شكرا جزيلا على أن جعل ديننا دينا ملائما للفطرة القويمة، تستسيغه وتنسجم معه كل الطباع والعقول السليمة، فهو دين يحل جميع "الطيبات" ويجعلها في متناول الإنسان، دون طبقية ولا عنصرية، ولا يحرم عليه –وقاية له- إلا "الخبائث" التي لا يقبلها الطبع ولا تعود عليه بمنفعة حقيقية، وهو دين يعتبر كل عمل صالح وسعي نافع نوعا ممتازا من العبادة ما دام الهدف من نفس العمل خدمة للفرد والجماعة، وتبادل الإفادة والاستفادة، وهو دين يحض على النظر في ملك الله وملكوته الواسع الأكناف، ويدعو إلى التدبر في آياته المبثوثة في الكون الشاسع الأطراف، تجديدا لفيض الإيمان، وتعريفا بأسرار الكون المسخر لمنفعة الإنسان. قال تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) سورة الروم 30. وقال تعالى(من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) سورة النحل 97. قال تعالى (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن ذلك لآيات لقوم يتفكرون) سورة الجاثية 13.

معاشر المسلمين
إن من تيسير الله لنا في معالجة شؤون الدنيا وشؤون الدين، أن جعل الشريعة الإسلامية التي أكرمنا بها شريعة فطرية في مبادئها، منطقية في أحكامها، قادرة على استيعاب مراحل التطور بأجمعها، مستجيبة لحاجيات المجتمعات على اختلاف مستوياتها وأنواعها، صالحة للتطبيق في كل عصر وجيل، دون حاجة إلى إدخال أي تغيير على مبادئها أو تبديل. ففي نطاق مبادئها وقواعدها والمحافظة على روحها يمكن لكل مجتمع أن يبلغ غاية ما يطمح إليه من التطور والنمو، والكمال والسمو. بل كلما تقدمت البشرية خطوة إلى الأمام، وجدت مثل الإسلام العليا سابقة لها متقدمة عليها، تضيء لها الطريق على الدوام، وإنما يتوقف الأمر على من يستوعب نصوصها، ويدرك مقاصدها ويتفهم أسرارها ويأخذ على عاتقه أن يستخرج نفائسها ودررها، وذلك أمر مرهون بإعداد مجموعة كافية من العلماء والمفكرين، يكونون –مثل سلفهم- مستوفين لشروط الاجتهاد والنظر في أصول الدين، ويكرسون جهودهم لإحياء تراث الإسلام الثمين، وصياغته صياغة جديدة تجعله في خدمة: جماهير المسلمين.

فمن واجب القادة المسؤولين والزعماء البارزين في العالم الإسلامي أن يفتحوا الطريق أمام القائمين بالبعث الإسلامي والدعوة الإسلامية، وأن يشملوهم بالرعاية الكافية، حتى يؤدوا رسالتهم أحسن أداء. كما أن من واجب دعاة الإسلام أنفسهم أن يجتمعوا على كلمة سواء، ويدعموا فيما بينهم روابط التضامن والإخاء، وأن يعملوا على أن تكون دعوتهم خالصة لوجه الله يسودها طابع التعاون والصفاء. فبالتخطيط الإسلامي المحكم، والعمل المتواصل المنظم للدعوة الإسلامية الموحدة، يتغلب المجتمع الإسلامي على كثير من الأزمات، ويتصدى بفعالية ونجاح لمواجهة كثير من التحديات ويمارس مسؤولية تطوره ونموه بنفسه وفي نطاق حضارته، دون أدنى تبعية، ولا ضغوط خارجية قال تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) سورة التوبة 122. وقال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) سورة آل عمران -104 – 105.

معاشر المسلمين
إن الإسلام دين ترتكز فيه الحياة كلها على مبدأ المسؤولية، وهي في مفهومه فردية وجماعية، فما من أحد منا إلا وهو يتحمل حظا منها يضيق أو يتسع، بقدر ما يوضع بين يديه، ويتصرف فيه، من مرافق خاصة أو عامة، وإن مراقبة الله، والشعور بالمسؤولية أمام خلقه، لحافز كبير على أداء الحقوق والأمانات إلى أهلها، ودافع قوي للقيام بالتكاليف والواجبات في وقتها والمبادرة بتدارك ما فات منها، ولن تؤتي المسؤولية أكلها إلا إذا كان المسؤول يقدر مسؤوليته حق قدرها، ولا يفرط مطلقا في أمرها، وإلا إذا أعطى القدوة الحسنة من نفسه للقريب والبعيد، وصرف أكبر حظ من نشاطه في العمل المفيد والقول السديد، وإن الخطر كل الخطر في إهمال المسؤولية بعد حملها، أو وضعها في أيدي المتطفلين عليها ومن ليسوا من أهلها، إذ بذلك تضيع الحقوق وتتعرض المصالح المشروعة للإهمال، ويختل نظام المجتمع ويصاب بالتفكك والانحلال، وعلينا نحن المسلمين كافة، فرادى وجماعات، أن نتحمل مسؤوليتنا التاريخية بكل شهامة وحزم، داخلا وخارجا، حتى يواصل الإسلام سيره دون تراجع ولا وقوف، ويستعيد سيرته الأولى ومركزه الممتاز في مقدمة الصفوف، قال تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) سورة الأحزاب 72. وقال تعالى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى) سورة النجم 39 – 42.

 

 

للاطلاع أيضا

بيعة علماء الحديث : للسلطان مولاي الحسن الأول

بيعة قبيلة الحشم : للسلطان مولاي الحسن الأول

بيعة قبيلة مسفيوة : للسلطان مولاي الحسن الأول

بيعة قادة الجيش : للسلطان مولاي الحسن الأول

بيعة أهل مراكش : للسلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن

بيعة أهل السويرة : للسلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن

بيعة أهل طنجة والجيش الريفي وقواده

بيعة تطوان : للسلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن

بيعة سجلماسة وقبائلها الصحراوية : للسلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن

بيعة أهل فاس : للسلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -