من ملاحم الكفاح الوطني بتازة: معركة "بين الصفوف" 1956
تحل في هذه الأيام من أواخر يناير الذكرى الرابعة والستون لمعركة بطولية منسية من ملاحم الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي ونظام الحماية، إنها معركة "بين الصفوف" التي جرت أطوارها يوم الإثنين 28 يناير 1956، حين واجه 300 مجاهد من جيش التحرير قوات فرنسية ضخمة مدججة بالسلاح، تدعمها فرق من "الكوم" المغربي المجند.
ورغم الفارق الكبير في العدة والعتاد، حقق جيش التحرير انتصارًا باهرًا، كبد خلاله العدو خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
الخلفيات: كيف تشكّل جيش التحرير؟
مع تراجع وتيرة المقاومة داخل المدن، خاصة بعد استشهاد محمد الزرقطوني سنة 1954، رأت قيادات المقاومة ضرورة فتح جبهة جديدة تُربك الاستعمار وتكسر الحصار المضروب. هكذا، بدأت طلائع المقاومين في التوجه سرًا من الدار البيضاء نحو شمال المغرب، تحديدًا إلى تطوان والناظور.
من أبرز هؤلاء المقاومين: عبد الله الصنهاجي، سعيد بونعيلات، عباس المسعدي، الحسين برادة، والعرايشي، الذين شكلوا نواة صلبة لجيش التحرير في الشمال، وانضم إليهم مقاومون آخرون عرفوا لاحقًا بـ"اللاجئين". نشطوا في مناطق جزناية، إيموزار مرموشة، تاونات، مرنيسة، وتافوغالت.
جيش التحرير.. بين الداخل والخارج
تم التنسيق مع الزعيم عبد الكريم الخطابي بالقاهرة، حيث كانت لجنة تحرير المغرب العربي، وكذلك مع الزعيم علال الفاسي، الذي دعا الشعب لحمل السلاح عقب نفي السلطان محمد الخامس في 20 غشت 1953.
وحظي جيش التحرير بدعم لوجستي وسياسي من عدة أطراف، من ضمنها الثورة الناصرية، وتم تهريب الأسلحة عبر باخرة "دينا"، كما التحق به محاربون سابقون في حروب الهند الصينية، فلسطين، والريف.
اندلاع الشرارة الأولى: "مثلث الموت"
في ليلة 2 أكتوبر 1955، انطلقت أولى العمليات المسلحة في منطقة جزناية، وبالضبط في "مثلث الموت": أكنول – تيزي وسلي – بورد. شكّلت هذه العمليات دعمًا قويًا للضغوط السياسية التي تزامنت مع مفاوضات إيكس ليبان، ورفض الحركة الوطنية لمجلس حفظة العرش الذي شكلته فرنسا.
وتزامن ذلك مع اشتعال الثورة الجزائرية في 1 نونبر 1954، وعودة السلطان محمد الخامس من المنفى في 16 نونبر 1955.
ما بعد عودة السلطان.. لماذا استمر القتال؟
رغم إعلان تشكيل أول حكومة وطنية في 7 دجنبر 1955، استمر جيش التحرير في القتال. لماذا؟ ببساطة، لأن القيادة الميدانية لم تكن راضية عن مسار المفاوضات، وكانت تطمح إلى التحرير الكامل للتراب المغربي، وطرد آخر جندي أجنبي من المنطقة.
بين الصفوف.. المعركة الخالدة
علمت قيادة جيش التحرير بتحركات الجيش الفرنسي نحو مقدمة الريف، فسارعت إلى إفشال مخطط الالتفاف الذي كانت تنفذه القوات الاستعمارية شمال وجنوب تازة. تمركزت قوة من 300 مجاهد بقيادة محمد العجوري التاغيلاستي والحاج مسعود بوقلة في منطقة "بين الصفوف"، وهي منطقة جبلية صعبة التضاريس تفصل بين مرنيسة والتسول وقبائل البرانس.
في صباح 28 يناير 1956، انطلقت المعركة من كمين محكم دام ست ساعات. استعانت القوات الفرنسية بـ24 طائرة ومدفعية ثقيلة، لكن المفارقة أن بعض القصف أصاب جنودها خطأ، مما زاد في خسائرها وتراجعها.
الخسائر والغنائم
-
العدو: حوالي 300 قتيل و600 جريح حسب مصادر جيش التحرير.
-
المجاهدون: 14 شهيدًا وعدد من الجرحى.
-
الغنائم: 104 قطعة سلاح خفيف، 5 أجهزة اتصال لاسلكي، وأسر جنديين.
أما الصحافة الفرنسية، فحاولت التقليل من الخسائر، ووصفت جيش التحرير بالإرهابي، لكنها اضطرت للاعتراف بمقتل العشرات من جنودها.
ما بعد المعركة
بعد هذا النصر، زار محمد الخامس منطقة تازة يوم 14 يوليوز 1956، وأمر بتهدئة الأوضاع ودمج فصائل جيش التحرير ضمن القوات المسلحة الملكية، استعدادًا لاستكمال تحرير باقي مناطق الوطن، ومنها الجنوب المغربي حيث اندلعت لاحقًا عملية "إيكوفيون".
ختامًا
رغم مرور الزمن، تظل معركة "بين الصفوف" شاهدًا على بطولة نادرة في تاريخ المقاومة المغربية، ورمزًا لصمود الشعب وإرادته في نيل الحرية. فـ"وذكّر، فإن الذكرى تنفع المؤمنين".
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.