تواركة فضاء سكني كائن بالمشور (القصر الملكي بالرباط)، إنها مدينة مستقلة تضم كل المرافق والتجهيزات. فالمشور يضم مجالا يحتضن مساحة كبيرة مخصصة لبنايات سكنية وبعض المرافق والقصر الملكي، والكل محاط بسور وأبواب رئيسية وفرعية على شاكلة المدن العتيقة المغربية.
تواركة
وساكنة المشور عموما تتمثل في أفراد العائلة الملكية إلى جانب سكان تواركة بجماعتهم وتنظيمهم الإداري المستقل، وكذلك بعض الموظفين والمستخدمين العاملين بالقصر الملكي أو بإحدى مرافقه.
ويضم المشور مرافق إدارية، منها الديوان الملكي بمختلف أقسامه ومصالحه، ومديرية التشريفات والأوسمة وإدارة الدفاع ومقر الوزارة الأولى والخزانة الملكية ومختلف الأجهزة الأمنية التابعة للقصر والأركان العامة للجيش الملكي؛ هذا إضافة للمعهد المولوي ومرافق اجتماعية أخرى، صحية ورياضية وترفيهية كمربض لركوب الخيل ومسبحين وملعب كولف وملاعب للتنس، ومساحة سكنية ومحلات تجارية وغيرها لساكنة تواركة.
وفضاء تواركة (المشور) لا يتميز فقط باستقلاله الإداري ونوعية الشريحة الاجتماعية القاطنة به، وإنما يتميز كذلك ببنية علائقية انتشرت وتفرعت عبر عدة قنوات. واستمرار هذا الطابع المميز لفضاء تواركة وساكنتها استوجب ضمان إعادة إدماج ساكنتها بعيدا عن النسيج المجتمعي.
وفي هذا الصدد يقول الطوزي إن "الملك (السلطان) أب لعائلة كبيرة يمتد عمليا ليشمل كل سكان المشور ومختلف القصور الملكية وعبيد قدامى وخدم و"مخازنية" وحرس ملكي... أي أنه رب عائلة فعلي لكل أولئك الذين يعيشون في الفضاءات التي يتحرك فيها الملك".
وبالضبط، هذا الفضاء هو ما يصطلح عليه بدار المخزن التي تمثل النواة الصلبة للنظام السياسي المغربي، لأنها هي التي تفرز قيم ونهج الحكم وثقافته ورجالاته ومراسيمه وطقوسه؛ ففي هذا الفضاء (دار المخزن) عاش وتربى الملوك والأمراء وفق التقاليد المخزنية العرفية. وفي دار المخزن تزكى النخب السياسية ويستقبل المسؤولين، وبها يؤدى قسم الإخلاص. وهو الفضاء الذي يحضن كذلك مراسيم البيعة؛ وبدار المخزن تهيأ أهم القرارات المصيرية، السياسية منها والاقتصادية، إن على الصعيد الداخلي أو الخارجي، وتظل قاعة العرش أهم ركن في دار المخزن، والتي منها غالبا ما تنقل الخطب الملكية الرسمية.
ويرجع فضل زيادة تعمير تواركة بعبيد البخاري إلى السلطان محمد بن عبد الرحمان، إضافة لإقامة دار المخزن والمشور (القصر الملكي) بالرباط. أما أصل ساكنة تواركة فيعود إلى عبيد البخاري الذين شكلوا أصلا العنصر الأساسي للجيش الملكي، لاسيما العناصر المكلفة بحراسة وحماية السلطان والقصور السلطانية.
وظل خدم وعبيد القصر يقطنون بتواركة، إذ كان لا يسمح لهم بالسكن خارج دار المخزن، لكن مع مرور السنين عندما كثر عددهم وضاق بهم فضاء تواركة، خصص لهم الملك الراحل الحسن الثاني أحياء خاصة بهم في مدينة سلا.
وبالأمس القريب كان ممنوعا على الغرباء ولوج الحي السكني لتواركة الذي يتوفر على مدخل فرعي كائن بالقرب من حمام تواركة قبالة الباب الخلفي لجامع السنة، في هذا المدخل يقف على الدوام، ليل نهار، أحد عناصر الشرطة ولا يسمح بالدخول إلا لقاطني الحي أو لمن لهم أقارب هناك.
كما أنه إلى حدود الثمانينيات كان التواركة ناذرا ما يتزوجون بغير التوركيين، إلا أن الأمر تغير وأضحى الكثير منهم (رجالا وإناثا) يتزوجون خارج تواركة، خصوصا وأنه لم يعد الأبناء يتوارثون الخدمة بالقصر أبا عن جد.
فجيل الستينيات والسبعينيات وما بعدهما تابعوا دراستهم وولجوا وظائف في مختلف الإدارات وفي القطاع الخاص، لاسيما وأن الخدمة بدار المخزن لم تعد مقصورة على أهل تواركة كما كان الحال عليه في السابق، وإنما فتحت أبواب الخدمة بها لغير التواركيين.
وبخصوص الحياة العملية لأهل التواركة العاملين بدار المخزن، فهي تخضع لتوقيت مضبوط كما هو الشأن بمختلف الوظائف، إذ أنها تخضع لتوزيع زمني محكم ما عدا في بعض المناسبات وفترات معينة حيث يستوجب حضور الجميع (مراسيم البيعة مثلا).
خصوصية وضعية العاملين بدار المخزن
ظل العاملون بدار المخزن، سواء منهم الخدم والعبيد أو المستخدمين، يحظون بوضعية خاصة ويخضعون لإجراءات تميزهم عن باقي العاملين في أسلاك الدولة وعن المواطنين العاديين.
إنهم يحملون بطاقة تعريف وطنية تقر بإقامتهم بالمشور مع رقم خاص يثبت تحت خانة العنوان والذي يفيد بهذه الخصوصية. وباعتبار أن ساكنة تواركة لا يخضعون، في حالة ضبطهم خارج القانون، إلا لمساءلة واستنطاق شرطة المشور.
ومن المعروف أنه في حالة اعتقال أحدهم بمكان ما، يكون لزاما على الجهة التي قامت بالاعتقال إخبار أمن المشور ورجال سلطته بالأمر، أي النازلة وبفحواها أولا ثم إتباع المسطرة الخاصة ثانيا.
كما أن العاملين بدار المخزن يخضعون من حين لآخر لعملية تفتيش مباغتة بمحل سكناهم بدون سابق إنذار ودون حدوث ما يدعو إلى ذلك، سواء كانوا يقطنون بالمشور (تواركة) أو خارجه.
ويقوم بهذا التفتيش عناصر من أمن المشور أو من الحرس الملكي حسب الحالات وحسب موقع ورتبة الشخص موضوع التفتيش. وحسب أحد المصادر، تم اعتماد هذه الطريقة تلافيا لوقوع أي مشكل من شأنه توريط العاملين بدار المخزن في كل ما شأنه النيل من سمعتهم، كما أن هذا الإجراء يعتبر سبيلا من سبل المراقبة اعتبارا لطبيعة العمل الذي يقومون به وحساسيته.
تلك بعض الترتيبات والقواعد التي يخدع إليها العاملون بدار المخزن، وهناك ترتيبات وإجراءات أخرى يتم القيام بها في حالة السفر مثلا، لاسيما خارج المغرب
زواج العبيد
إن زواج العبيد وخدم القصر الملكي يخضع لقواعد وترتيبات خاصة، إذ أنهم لا يمتلكون الحرية في الزواج بمن يريدون ومتى يريدون حتى وإن كانت الزيجات بين عائلات سكان تواركة. فلا يتم الزواج إلا بعد موافقة الملك وإن كان ذلك رمزيا، وبعد القيام ببحث إن كان أحد الطرفين يقطن خارج المشور، ويهم هذا البحث الاسم والنسب والسيرة والأوضاع المعيشية.
وعموما ظل الملك يشرف مباشرة على كل ما يرتبط بزواج أهل القصر والمشور وسكان تواركة من خدم وعبيد وحتى مستخدمين. وكان معروفا أن الملك الراحل الحسن الثاني يحرص على الاطلاع على كل شاذة وفادة بخصوص أهل القصر والمشور.
وظلت عقود القران الخاصة بالخدم والعبيد تعقد في القصر الملكي بعد صدور موافقة الملك، ولم تكن لتتم لولا هذه الموافقة. وهناك حالات في عهد الملك الحسن الثاني، خاصة ببعض أفراد العائلة الملكية وبعض العبيد ظلت عالقة لأن الملك لم يصدر موافقة بخصوصها ولم يتم تذكيره بها للحسم فيها في أوانها.
وكذلك الشأن بالنسبة للطلاق، يتم بدار المخزن بعد إخبار الملك وموافقته على ذلك، إذ كان من المعروف في عهد الملك الحسن الثاني عدم اللجوء إلى المحكمة في أي حال من الأحوال. فكل النزاعات، حتى بعض الجرائم منها، كانت تحسم بدار المخزن دون عرضها على أنظار العدالة، وناذرا جدا ما تم عرض نازلة كان أحد سكان تواركة طرفا فيها على أنظار العدالة في العهد الحسني. لكن الأمر تغير حاليا بعد أن اختار الملك محمد السادس نهجا ونمطا مغايرا للحياة عن نهج ونمط والده
من الطقوس المخزنية العتيقة
من طقوس دار المخزن طريقة تقبيل يد الملك من طرف العبيد والخدم بالقصر الملكي واحترام التراتبية بين الخدم والعبيد وخفض النظر أو الاستدارة إلى الحائط كلما مرت إحدى نساء القصر بجانب أحد الخدم أو العبيد.
وبخصوص تقبيل يد الملك، قبل أن يمسك خدم أو عبيد القصر يده لتقبيلها يلفون أيديهم في أطراف "سلهامهم الأبيض" حتى لا تلمس مباشرة يد الملك، وهذا تقليد ظل ساريا بدار المخزن على امتداد قرون، وفلسفته أن صورة الملك وشخصه مرتبطان بالهيبة والخنوع ولا ينبغي أن تتزعزع هذه الصورة في ذهنهم أبا عن جد.
إنها من طقوس تمجيد القوة وتقديس الطاعة وتحمل علامات وإشارات لها دلالاتها السلطوية، علما أنه في السابق لم يكن خدم وعبيد البلاط يكتفون بتقبيل يد السلطان وإنما يسجدون له ويقبلون نعله، لكن هذه العادة اختفت تماما مع الأسرة العلوية التي حكمت المغرب منذ أزيد من ثلاثة قرون خلت
قدسية الملك الحسن الثاني
إن الطقوس المتبعة بالقصر الملكي بخصوص نمط الحياة الخاصة بالخدم والعبيد هي في الأساس مرتكزة على فكرة قدسية شخصية الملك
وقد تناول المؤرخ والروائي عبد الله العروي في كتابه "المغرب والحسن الثاني.. شهادة" صفحة من صفحات تاريخ المغربي الحديث، إذ أكد أن الملك الراحل الحسن الثاني ذهب إلى حد الإعلان عن قدسيته في أول دستور للمملكة سنة 1962، وهو الطرح الذي لا يستسيغه ولم يجد له مبررا إلا عند الشيعة وفي إطار معتقداتها المذهبية. وفي نفس هذا الدستور جعل الملك الإسلام دين الدولة، كما جعل من الملك أمير المؤمنين نزولا عند رغبة بعض الزعماء السياسيين من بينهم آنذاك الدكتور الخطيب. وأضاف عبد الله العروي أن الملك الحسن الثاني لم يكن ينكر، بأي حال من الأحوال، استفراده بالحكم الذي لم يكن مستعدا طوال حياته لتقاسمه مع أي حزب سياسي كان، حتى تلك الأحزاب السياسية التي قيل أنها من صنع القصر أو المخزن.
واعتبر عبد الله العروي أن مختلف الخطوات المحققة في مجال حقوق الإنسان في العهد الحسني جاءت بالأساس للاستجابة لملاحظات واشنطن بهذا الخصوص وللحملة الأوروبية ضد المغرب.
وللإشارة فقد سبق للأمير هشام أن طالب علنيا بفصل الملكية، عن القدسية وإرسائها على أسس ديمقراطية، باعتبار أن الديمقراطية والقدسية لا تجتمعان.
إلا أن بروتوكول دار المخزن والضوابط التي تحكم حياة الخدم والعبيد ظلت مرتبطة في جوهرها بثقافة تعتمد على شرعية تقليدية تمزج بين الدين والتاريخ، وتجعل الملك كائنا مقدسا في نظر خدم وعبيد البلاط، وعلى هذا النظرة تتأسس كل حركاتهم وسكناتهم وحياتهم اليوم وحياة ذويهم بدار المخزن لأنهم لا يفهمون كيف للملك أن يكون ملكا دون أن يكون مقدسا
طقوس صلاة الجمعة بالأمس القريب
قبل أن يعتلي الملك الراحل الحسن الثاني عرش البلاد في فجر ستينيات القرن الماضي دأب المغاربة، لاسيما سكان العدوتين (الرباط وسلا)، معاينة مراسيم صلاة الجمعة بانتظام بمشور القصر الملكي بالرباط؛ إذ كان الملك الراحل محمد الخامس يخرج كل يوم جمعة من القصر للتوجه إلى مسجد أهل فاس لأداء الصلاة الجماعية كل أسبوع، ما عدا فترة غيابه عن العاصمة. إلا أن هذه العادة قد اندثرت دفعة واحدة في العهد الحسني، ربما لاعتبارات أمنية محضة نظرا لأن الأوضاع بالمغرب عرفت آنذاك احتقانا لم يسبق أن عاينه عهد والده، علما أنه كان آنذاك قد تم الإعلان عن حالة الاستثناء.
قبل ذلك كان سكان الرباط وسلا وضواحيهما يحجون منذ الصباح الباكر ويحتلون ساحة المشور قصد التمكن من الاستقرار في مكان مناسب لمعاينة الاستعداد لخروج الموكب الملكي ولرؤية الملك متوجها إلى المسجد ثم عودته منه. كانوا يتابعون حركات فرق الخدم والعبيد وهي تقوم بالمهام الموكولة لها ذلك اليوم تحت أنظار جماهير غفيرة، رجالا ونساء، أطفالا وشيوخا، أتوا ليتملوا بطلعة الملك في خروجه قصد أداء صلاة الجمعة ممتطيا جواده أو على متن العربة الملكية الذهبية.
كان الموكب الملكي يخرج من باب القصر محاطا بمختلف فرق الخدم والعبيد يتوسطهم حامل المظلة الملكية ذات الحجم الكبير واللونين الأخضر والأحمر؛ مئات الخدم والعبيد وفرسان الحرس الملكي بلباسهم الأحمر أو الأبيض، سيلان من السود بلباسهم الأبيض وشاشياتهم الحمراء فاقع لونها يتقدمهم أصحاب الفقيات البيضاء، تحتها قفطان باللون الأصفر البزيوي أو الوردي أو الأزرق حسب مهامهم ودرجتهم التراتبية في صفوف الخدم والعبيد، ويتقدم الموكب حاملي الرماح ثم الحاجب الملكي بسيفه وعصاه الطويلة ولا زالت نفس الطقوس سارية في عهد محمد السادس.
وللإشارة فإن جامع أهل فاس (مسجد المشور) الذي كان يصلي فيه الملك صلاة الجمعة هو من مآثر السلطان محمد بن عبد الله وجدده السلطان محمد بن عبد الله ثم السلطان محمد بن عبد الرحمان وموه سقوفه بالذهب والبرقشة وتوالت عليه تعديلات في عهد الملك محمد الخامس
الجزء الاول من المقال / الجزء الثاني/ الجزء الثالت/الجزء الاخير
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.