أخر الاخبار

الحقيقة الضائعة: حزب المحظوظين.. وحزب المزلوطين

مصطفى العلوي - الحقيقة الضائعة


لو كانت لنا – نحن أيضا – مؤسسات لاستقراء الرأي، وسألت الرأي العام عن رأيه.. بكل موضوعية، وبالكثير من الهدوء والواقعية، لانكشف للباحثين أن المغرب الموحد، المتفق مع جلالة ملكه، المتضامن معه في السراء والضراء، في الحلو والمر، هو في الواقع، متركب من مجموعتين مختلفتين متباعدتين فيما يتعلق بالاختيارات الداخلية.
وليس سرا أن هؤلاء المهتمين بنا وبشؤوننا، والذين يقضون أيامهم ولياليهم في كتابة التقارير حولنا، وإصدار الفتاوى في شأننا، ينطلقون في أحكامهم من خلال الاتجاهين المتباعدين للتركيبة الاجتماعية السياسية لمغربنا، ومن محبرة تناقضاتها يكتبون.. ويخططون.
وعبر الفجوات العميقة التي تفصل التركيبتين، يمكن أن تتسرب كل المحاولات والتجارب التي ليس الجسم المغربي – بكل أسف – معقما ضد “فيروساتها”.
إننا لا ننازع مشيئة الله وإرادته في أنه خلقنا هكذا، غني وفقير، قوي وضعيف، متنور وجاهل، أسود وأبيض، تعيس وسعيد، مبروك ومنحوس، ولكن الفوارق التي نعنيها ونعاني منها، إنما هي من صنع البشر وتصنيفه، وحيث المقولة الخالدة: بأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، فالخوف كبير في أن يكون الانقطاع والانفصال لواقع هو من صنع البشر، نوعا من العقاب الإلهي الذي لا حول لنا به ولا قوة.
إن المغرب القائم المنتصب، البالغ سدرة المنتهى، والراكب لهودج العظمة والكمال، الثابت الخطى، المحتذي بجلد النفوذ القوي، لا تخترق أسماعه إلا آيات التقدير وعبارات التنويه، ولا ترى عيناه من خلال نظاراته الخضراء، إلا جنات عرضها السماوات والأرض، خضراء بحشيشها وحتى تبنها، لا عيب ولا نقص، ولا حاجة ولا خلل، اقتصاد مزدهر، وعمران منتشر، وعدل شامخ من خلال الأعمدة الرخامية لمحاكمه المتناثرة، وأموال مرصودة في الأبناك، وكنوز على صدور السيدات وفي معاصمهن وحول خصورهن.
إنها سدرة المنتهى، بلغتها فئة لا تتعدى العشرة في المائة من المواطنين الذين يكسبون عشرات الملايين شهريا.
ومغرب الكادحين والعاملين الذين يقضون حياتهم بين التزاحم على وسائل النقل، وبين العمل المضني من أجل خبز العيش.. عيش يكسب فيه الكادح سبعمائة درهم شهريا، وهي النسبة الغالبة في أجور أزيد من ثمانين في المائة من المأجورين.
هذا الوجه الثاني للعملة المذهبة، كالح السمة حزين الضمير، شرب ماء الصبر في حنفيات البيوت، والتهم دواء الصمت معجونا بالخبز، ومسكوبا في الشاي، يسير شيبه وشبابه، نساؤه ورجاله، الهوينا، بجانب جدار الحياد، متدثرين بأردية الانتظار، ومتراصين في صفوف المؤملين، تتفادى أقدامهم حفر اليأس المؤدية بلا شك إلى ممرات الأمل والرجاء، لا يهمهم من اليوم إلا انتهاؤه، ولا من الشهر إلا الخوف من نهايته، ولا من العمر إلا الأمل في انقضائه.
وتقف الأحزاب السياسية قديمها وجديدها بين الجمعين، واضعة يدها اليمنى مع الجمع الأول، ويدها اليسرى مع الجمع الثاني، متأرجحة الأقدام بين المواقف، فاقدة الوعي، لهول الخوف من السقوط.
ويحتار الفكر لهذا التناقض المهيمن على هياكل الأحزاب، التي اختار الكثير من قادتها الاحتماء ببذخ المحظوظين، وبقيت جماهيرها كادحة تزيد متاعب النضال والمعاناة على بؤسها وشقائها.. حتى إذا ما هبت عاصفة المتابعة والمضايقات، فإنها لا تصيب بزكامها وحماها إلا هؤلاء الكادحين، لا تصيب القادة ولا الزعماء، لعلو أبراجهم وصلابة سياجات قصورهم..
وهو حال من التناقض يستحيل أن يدوم.
فكلما ازدادت الفوارق الطبقية شساعة، كلما زاد الخطر المحدق بالأحزاب السياسية وبمصداقيتها ضخامة.. كما زادت احتمالات سقوط الأحزاب في هوة الضياع.
ويقولون أن عندنا في المغرب عشرات الأحزاب، هي كلها في وضع واحد أو تكاد..
ترى.. هل عندنا حزب يمثل المحظوظين، وحزب يمثل المزلوطين، أم أن المغرب في حاجة إلى إضافة حزبين اثنين إلى اللائحة الطويلة للأحزاب؟ يكون زعيم الحزب الأول، شابا أنيقا اشترى شهادات الدكتوراه أو أصدر الأوامر بطبعها، وسيما متألقا حريري اللباس مثقل الجيوب، لا يستعمل من القواميس إلا عبارات التفاؤل، ولا من منطق الشعب إلا كلمة “الأمة بخير”، لا يتكلم في الإذاعة، ولا يؤمن بالصحف، لأنها عنوان لحرية شبع الشعب منها.
وعندما يعقد مؤتمره الوطني، تمتلئ بوابة الملعب البلدي، مقر المؤتمر، بالمرسيديسات السوداء وقد اصطف على جنباتها سواقوها بقبعاتهم، ووضعوا شارة الحزب على صدورهم.
وفي داخل القاعة، لا ترى إلا خليطا من الورود والشخصيات.. وزراء ورؤساء ومدراء ومستشارين وأرباب المصانع وأصحاب الفنادق الفخمة.. ويكون برنامج المؤتمر سردا للإنجازات، ومقررات المؤتمر تذكيرا بتلك الإنجازات.
أما زعيم الحزب الثاني، فيكون ضعيفا نحيفا من سوء التغذية، خريجا بدكتوراه حصل عليها باستحقاق، فكر في بيعها فوجد هناك كثيرا ممن سبقوه لبيع دبلومات أكبر منها.. تزعم الحزب الجديد صدفة في تجمع للعاطلين، عقدوه على موائد واحدة من المقاهي المعدودة بالآلاف، وحدت بينهم المآسي، وشحذتهم الحاجة، وعلمتهم المعاناة أن الصمت ليس بحكمة، وأن السكوت نوع من الأزبال، وليس من ذهب كما تقول المثل العليا.
قد يكون هذا الكلام هراء وتخريفا.. وقد لا يكون.. فزعيم الحزب الأول موجود.. أما الزعيم الثاني، فقد يكون هو كل شخص من هؤلاء الذين تراهم على الأرصفة، ورائحة الحاجة والخصاص تفوح من أطرافهم وهم على بعد عشرة أمتار، وغمامة اليأس والضنى تهيمن على أبصارهم وقلوبهم، فترتسم ملامح مكدرة على وجوه لم تعرف الابتسامة منذ سنوات الصبى.. حيث كانوا أطفالا لا يعرفون شيئا اسمه المسؤولية تماما كبعض زعماء الأحزاب الحالية، الذين استقالوا من تحمل المسؤولية.. ولذلك، فإنك تراهم غالبا يضحكون.
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -