أخر الاخبار

اقطعوا رأسه بشاقور







عبد القادر الصحراوي

(أنا سلطان السلاطين وملك الملوك، مانح التيجان للملوك على وجه البسيطة، ظل الله في الأرض،سلطان البحرين الأبيض والأسود، وخاقان البرين، وملك الروملى، والأناضول، وبلاد الكرمان، وبلاد الروم، وزلكدريا، وديار بكر، وكرستان، وآذربيجان، وفارس، ودمشق -حلب- القاهرة – ومكة المدينة-القدس، وكل البلاد العربية، اليمن، وبلاد كثيرة.
افتتحها آبائي وأجدادي الأمجاد بقوة سلاحهم، وجعلتها جلالتي المعظمة تابعة لسيفي الملتهب، ومهندي المنصرم.
أنا السلطان سليمان خان ابن السلطان سليم خان، ابن السلطان بايزيد خان، أبعث إليك أنت فرنسيس ملك فرنسا).

هكذا كان يكتب إلى الملوك المعاصرين له السلطان سليمان القانوني كما كان يدعوه الأتراك أو سليمان الكبير كما كان يلقبه الأوربيون.

ورغم ما يبدو في هذا الخطاب من عجرفة وأنانية واعتدادا كبير، فإنه يعبر عن حقيقة ليتطرق إليها الشك، هي أن السلطان سليمان العثماني كان قويا جدا وعظيما جدا، وكان معتدا بقوته وعظمته إلى حد كبير.

لقد كان عصره هو الذروة بالنسبة للدولة العثمانية، ولقد بلغت دولته على عهده أقصى ما أمكنها أن تبلغه من الازدهار والعظمة والفتح والتوسع والاستعمار في آسيا وأوربا وإفريقية، ومع ذلك فإنه لم يستطع هو ولا أي واحد من سلاطين الدولة العثمانية، أن يفتح المغرب أو أن يفكر في ذلك تفكيرا جديا، ولا شك أن لذلك أسبابا متعددة، منها بعد الشقة من جهة، ومنها من جهة أخرى، ما عرف به المغرب والمغاربة دائما المناعة وشدة المراس والأنفة والصمود في الحرب.

كانت فرائض الملوك ترتعد من ذكر السلطان سليمان القانوني أو سليمان الكبير، وكان يكفي أن يتوجه بأطماعه إلى بلد من البلاد لتهز العروش تحت ملوكها، وتتحرك التيجان فوق رؤوسهم.
أما كل مايهمنا نحن الآن من السلطان سليمان العثماني، فإنما هو كونه أحد أبطال القصة التاريخية التي نتخذها اليوم موضوعا للحديث، وإذا كانت القصة قد وقعت حوادثها في المغرب، فإن ذلك لم يكن ليمنع السلطان سليمان العثماني من أن يكون له فيها دور يلعبه من القسطنطينية عاصمة ملكه.

أما بقية أبطال القصة، فهو أبو عبد الله محمد الشيخ ثاني ملوك الدولة السعدية بالمغرب، و أبو حسون الوطاسي آخر ملوك الدولة المرينية، ثم الفقيه عبد الوهاب الزقاق، وهناك أبطال ثانويون لا نرى موجبا للتنويه بهم في هذه المقدمة، و قد ترد أسماء بعضهم في صلب الموضوع.

أما عبد الله محمد الشيخ وأبو حسون الوطاسي فربما كانا في غنى عن تقديمهما أو التعريف بهما، فقد كانا ملكين، وكل كتب التاريخ تذكر حياتهما وما كان بينهما من نزاع بتفصيل لا مزيد عليه.
 
وأما الفقيه عبد الوهاب الزقاق، فقد كان مجرد فقيه، وكان من الممكن لذلك ألا يحفل به التاريخ وأن يهمله وينساه، كما أهمل الكثيرين ممن لم يكن لهم ضلع كبير في السياسة، ولم يكن لهم نفوذ كبير في الحكم، ولكن التاريخ مع ذلك ذكره لسبب واحد، هو أن قصة موته تتصل اتصالا وثيقا بقصة موت ملك من الملوك، هو أبو عبد الله محمد الشيخ، أحد أبطال قصتنا هذه، أو بطلها الرئيسي إذا أردنا الدقة في التعبير.

ومع ذلك فإن التاريخ كان بخيلا جدا في حديثه عن الفقيه عبد الوهاب الزقاق، وأنت في حاجة إلى أن تستعرض كتب التاريخ كلها، لتعرف القليل الممكن عن هذا الفقيه.

فهو أولا عبد الوهاب بن محمد بن علي الزقاق، أي أنه حفيد الفقيه علي الزقاق صاحب المنظومة المشهورة في الفقه المالكي.

كان الفقيه عبد الوهاب الزقاق خطيبا بجامع الأندلس بفاس، وكان مدرسا يشرح لطلابه مختصر الشيخ خليل، وكان إلى جانبه فقهه، عالما بالنحو متطلعا فيه، ولعله كان يقول الشعر أحيانا، فقد حرصت كل الكتب التي تحدثت عنه، على أن تورد له هذين البيتين، وألا تورد له غيرهما :
من أخمل النفس أحياها وصونها
أن الرياح إذا اشتدت عواصفها
لم يبث طاويا كشحا على حذر
فليس ترمي سوى العالي من الشجر


وكان للفقيه عبد الوهاب الزقاق آراء خاصة في بعض جزئيات الدين، كان يدافع عنها ويكتب فيها الرسائل، منها أنه كان يرى أن وعيد الله للعصاة والمخالفين عن أمره، ليس من اللازم أن يتحقق، وأن من الجائز في حق الله أن يخلف وعيده بالعقاب والانتقام والتعذيب.

هذا كل ما احتفظت لنا به كتب التاريخ عن الفقيه عبد الوهاب الزقاق، فيما عدا قصة موته، ولعله على ضآلته كاف لأن يدلنا على بعض الملامح من شخصية هذا الفقيه الورع، الذي ذهب ضحية وفائه وإخلاصه واتخاذه الحيطة لدينه، كما سيبدو لنا بعد حين.

الآن وقد قدمنا كل أبطال القصة، فعلل من الممكن أن نعود فنبدأها من أولها.
 
كان ذلك في أواسط القرن السادس عشر، وكان الصراع على أشده بين دولة مقبلة، ودولة مدبرة، بين دولة المرينيين التي كان دورها قد انتهى، ولكنها كانت لا تزال متشبثة بمكانها على المسرح، لا تقبل التخلي عنه، بأي حال من الأحوال، وبين دولة السعديين التي كانت تصعد سلم المجد في خفة وسرعة، والتي كانت تفرض وجودها بحد السيف، وتحكمه في كل خلاف ينشب بينها وبين غيرها، كيفما كان مظهر هذا الخلاف، وأيا كان من يصدر عنه، خصما سياسيا، أو حليفا يخشى غدره، أو فقيها ورعا لا يرى أي موجب لنقض بيعه ملك شرعي لمجرد الخوف أو التملق أو الرضي بالواقع.

في سنة 1524 ميلادية، توفي بفاس عاصمة الدولة المرينية، السلطان المريني أبو عبد الله المعروف بالبرتغالي، وولى الأمر بعده ولي عهده أخوه أبو حسون، ويبدو أن أبا حسون هذا كان ضعيفا، أو كان قليل الحظ سيء التدبير، ومهما يكن، فقد حالفه النحس من أول سوم، وظل النحس يطارده إلى أن أسلم الروح نهائيا في معركة فاصلة بينه وبين السعديين.

ثار عليه في أول عهده بالملك ابن أخيه المتوفى، ولم يجد أية صعوبة في أن يحمله على التنازل له عن العرش، وهكذا أصبح الملك بعد خلع أبي حسون، هو السلطان أحمد بن أبي عبد الله البرتغالي.

ومع ذلك فإن دور أبي حسون في هذه القصة لم ينتبه بعد.
 
كانت الأحداث في هذه المدة وقبلها بمدة ليست باليسيرة تتمخض في جنوب المغرب عن دولة جديدة هي دولة السعدي، بل إن هذه الدولة كانت ولدت بالفعل، وكانت تترعرع بسرعة في مهدها البعيد إذ ذاك عن أيدي متناول الملوك المرينيين.

كانت هذه الدولة قد استقلت بجنوب المغرب، وغلبت على مراكش، واتخذتها قاعدة لها، أي أن البلاد كانت مقسمة في هذه الفترة بين السعديين المرينيين، فكان الجنوب وقاعدته مراكش للسعديين، وكان الشمال وقاعدته فاس للمرينيين.


وإذا كان المرينيون قد بدأ اليأس يخامرهم من أن يغلبوا السعديين على مراكش، فإن السعديين كانوا يتطلعون إلى السيطرة على فاس، و القضاء نهائيا على دولة بني مرين، وامتلاك المغرب برمته، و كان الملك السعدي إذ ذاك محمد الشيخ، يكثر من ترديد هذا البيت للمتنبي :
الناس كالناس والأيام واحدة
والدهر كالدهر و الدنيا لمن غلبا


وتمت الغلبة بالفعل لأبي عبدا لله الشيخ، فقد غزا المرينيين في عقر دارهم، وانتصر عليهم، وبعثهم أسرى إلى مراكش، وعلى رأسهم جميعا السلطان أحمد بن أبي عبد الله البرتغالي، الذي كان من قبل قد ثار على عمه أبي حسون، وأرغمه على التنازل له عن العرش.
لم يفلت من المرينيين من قبضة أبي عبد الله محمد الشيخ إلا أبو حسون، الذي كان قد تنازل عن العرش. لابن أخيه، وقنع بأن يصبح قائدا في جيشه.


نعم ، أفلت أبو حسون، لا ليخلد للراحة، ولا ليقنع من الغنيمة بالإياب، ولا ليحمد الله على السلامة، وإنما ليجوب بلاد الله، يبحث عمن يعينه على سعيه لإعادة مجد دولته.


وعندما كان أبوعبدالله محمد الشيخ، يرسي قواعد الدولة الجديدة، وينعم بالنصر، ويتلقن هو وحاشيته وأفراد عائلته قواعد البروتوكول ومراسم القصور بالعاصمة، كان أبو حسون يتجول في اسبانيا، يستغيث بملوكها، ويطلب منهم أن يعينوه على أمره، وعندما لم يجد أبو حسن من الاسبانيين عونا تركهم إلى الجزائر.


كانت الجزائر إذ ذاك ولاية عثمانية كتونس وطرابلس ومصر وسائر البلاد العربية الأخرى، وكان المرينيون في المغرب على علاقات ودية طيبة مع الدولة العثمانية، يعترفون لها بالخلافة وإن لم يتبعوها أو يخضعوا لها، فكانوا يخطبون باسمها على المنابر وربما ضربوا عملتهم باسم السلطان سليمان العثماني.


هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن العثمانيين لم يكونوا يكرهون أن تتم لهم السيطرة على المغرب، وإذا كان من الصعب على القسطنطينية أن تفكر في ذلك جديا أو أن تنفذه، لبعد الشقة، ولأسباب أخرى كثيرة، فربما لم يكن ذلك من الصعب على واليها بالجزائر، خصوصا وأن سلطان الدولة الجديدة بالمغرب أبا عبد الله محمد الشيخ، قد بدأت أطماعه تتسع، وقد بدأ طموحه يترامى إلى مدينة تلمسان لينتزعها من أيدي الأتراك العثمانيين.


وهكذا وجد أبو حسون من الوالي التركي بالجزائر آذانا صاغية، واستعدادا لإمداده بما يلزم من المال والرجال والعتاد، ليستعين بكل ذلك على استرجاع مجد دولته الذي قضى عليه الملك السعدي أبو عبد الله الشيخ.


وقدم أبو حسون إلى فاس من الجزائر في جيش تركي كبير، وكانت بينه وبين أبي عبد الله محمد الشيخ حرب كان النصر فيها لأبي حسون، وفر أبو عبد الله الشيخ إلى مراكش يجر وراءه الخيبة، ويجتر آلام الهزيمة المنكرة بعد ذلك النصر المبين، ويفكر في انتقام شديد مربع لشرفه وسمعته، ولدولته الفتية الطامحة إلى الحكم والمجد والسيطرة.


ويبدو أن هذه الموجة التي قضاها أبو عبد الله محمد الشيخ بفاس، وهي نحو من خمس سنين، كانت شديدة الوطأة على أهلها، فقد كان سريعا إلى الدماء شديد الفتك، ليتورع ولا ينحرج، بل يضع مصلحة دولته فوق أي اعتبار آخر كيفما كان.


لقد استطاع أن يفرض سلطانه على فاس بالقوة، ولكنه لم يستطع أن يحمل الناس فيها على محبته، ولا أن ينسيهم الدولة المرينية التي كانوا شديدي الحب لها والتعلق بها وذكر أيامها بخير وعندما غلب على أمره أمام أبي حسون والجيش التركي، تنفس الناس الصعداء في فاس، وخرجوا يستقبلون أبا حسون استقبال الفاتحين المحررين.


يقول مؤرخ مغربي هو محمد الصغير الوفراني في كتابه نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي : (ولما دخل أبو حسون فاسا، فرح به أهلها فرحا شديدا، وترجل هو عن فرسه، وصار يعانق الناس كبارا وصغارا، وشريفا ومشروفا، وهو يبكي على ما دهمه وأهل بيته... واستبشر الناس بقدومه وتيمنوا بطلعته).


ولعلنا لا نشك في أن هذا القدر من المحبة والاستبشار الذي أظهره الناس بفاس، لم يكن لشخص أبي حسون نفسه، وإنما كان للدولة المرينية التي كان يمثلها، لقد كان هو وحده، بقية هذه الدولة التي شردها أبو عبد الله الشيخ، والتي كانت تحظى في فاس بوجه خاص بتأييد جميع الطبقات وحبها وإخلاصها.
مهما يكن، فقد انقضت أيام الاحتفال بالنصر، وبدأت المشاكل تطل، وكانت أولى هذه المشاكل أن السكان بدأوا يتضايقون من جيش الاحتلال الذي كانوا ينظرون إليه منذ مدة على أنه جيش التحرير.


لقد استطاع أن يفرض سلطانه على فاس بالقوة، من الجزائر، ولكن المسألة لم تكن تعني بالنسبة لأفراد هذا الجيش تحريرا أو نصرا على دولة، وإنما كانت تعني المغامرة والكسب والغنيمة وما إلى ذلك، وصبر الناس ما صبروا للجيش التركي، ولكنه بدأ يتطاول إلى الحريم.
ولم يجد أبو حسون بدٍا من أن يدخل في مفاوضات من أجل جلاء هذا الجيش الأجنبي عن المغرب، بعد أن أدى مهمته، وكانت نتيجة هذه المفاوضات طيبة في الجملة على عكس ما كان متوقعا، فقد جلا عن المغرب جل الجيش التركي، وتخلف منه على حد تعبير المؤرخين المغاربة (نفر يسير).


ولسنا ندري ما إذا كان هذا ( النفر اليسير) قد فرض على أبي حسون فرضا، أو أنه اختار الاحتفاظ به للطوارئ.


عاد أبو عبد الله محمد الشيخ إلى مراكش، وأخذ منذ اليوم الأول لوصوله، يستعد لإعادة الكرة على فاس، ولم تمض إلا تسعة شهور حتى كان كامل الهبة، مستعدا للحرب تمام الاستعداد ، وهجم على فاس فلم تستطع أن تصمد له، ولم يفد أبا حسون ما احتفظ به من الجيش التركي، ولم يستطع في هذه المرة أن يفلت، فكان أول قتيل في هذه الحرب بينه وبين أبي عبد الله الشيخ.


قتل أبو حسون، فانتهى بذلك أمر الدولة المرينية، وأصبحت ملكا خالصا للتاريخ، وأصبح المغرب برمته يدين بالطاعة والولاء لدولة أخرى فتية، سيكون لها في تاريخه شٍأن كبير، وستلد له الأبطال الأمجاد والغزاة الفاتحين، تلك هي دولة السعديين التي أسسها محمد القائم بأمر الله، وكان أول ملوكها في مراكش ابنه أبو العباس أحمد الأعرج، وثاني ملوكها أبو عبد الله محمد الشيخ الذي قضى على دولة المرينيين، وجمع أطراف المغرب على الطاعة والولاء لدولة الأشراف السعديين.


كان أبو عبد الله الشيخ، يتمتع بكل المواهب والصفات التي تجعل منه رجل دولة بالمعنى الصحيح، كان متمرسا بالحرب قادرا عليها، مقداما لا يخاف، وكان مهيبا ذات شخصية قوية طاغية، وكان طويل الأناة والصبر، كثير الأمل، وكان إلى جانب كل ذلك مثقفا متين الثقافة راسخا في العلم، متأدبا، يحفظ ديوان المتنبي عن ظهر قلب، وعالما بالشريعة يحفظ القرآن ويفهمه، ويحفظ صحيح البخاري، ويجادل القضاة في الأحكام التي يصدرونها.


لم يكن يعيبه إلا شيء واحد، ربما كان هو الصفة الغالبة على الرجال الذين ترشحهم الظروف لمثل المهمة التي كان منوطا به إنجازها.


لقد كان عليه أن يرسى قواعد دولة، وأن يثبت حكمها وسيطرتها ونفوذها، وربما كان ذلك يقتضيه -كأمثاله من رجال التاريخ- أن يأخذ بشيء من الحزم، بل وبشيء من القسوة أحيانا، ولكنه كان مسرفا في ذلك مبالغا فيه.


لم يكن يقسو فقط على منافسيه من رجال السياسة والعسكرية والحكم، وإنما كان يتعدى ذلك إلى العلماء والفقهاء والمتصوفة إذا ما خشي منهم على مستقبل ملكه، أو بلغه أنهم كانوا يؤيدون خصومه السياسيين.


وهكذا امتحن أرباب الزوايا، وفتك يبعضهم، وشرد الكثيرين منهم، وقتل الفقيه على بن حرزوز خطيب مكناس، لأنه كان يذكره فيقول: وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالألم فحسبه جهنم ولبئس المهاد.


وعندما كان محاصرا لفاس قبل فتحها لأول مرة، قيل له أن السكان والأهالي لن يميلوا إليك إلا إذا بايعك الفقيه الإمام عبد الواحد الوانشريسي، فبعث إليه من يخاطبه في ذلك، فقال له الفقيه الوانشريسي (بيعة هذا السلطان في رقبتي، ولا يجوز لي حلها إلا بموجب شرعي، وهو غير موجود).


ولم يرض هذا الجواب أبا عبد الله النعيم فبعث للفقيه من اغتاله غدرا، وهو راجع من مجلس التدريس بجامعة القرويين.


وعندما فتح أبو عبد الله الشيخ فاسا للمرة الثانية، وقتل أبا حسون آخر ملوك الدولة المرينية بلغه أن الفقيه عبد الوهاب الزقاق الذي تحدثنا عنه في صدر هذا الكلام، كان يميل إلى أبي حسون وينصره، وأنه كان يرى في خروج السعديين على الدولة المرينية شقا للطاعة وتفريقا لكلمة المسلمين وكان ينظر للحروب التي يشنونها على أنها حرب غير مشروعة.


كان الفقيه الزقاق يرى ذلك عن عقيدة ويدعو إليه، فلما تم النصر لأبي عبد الله الشيخ أمر بالقبض عليه، واستدعاه إليه ليتولى محاكمته بنفسه.


كانت المحاكمة قصيرة رائعة، وكانت معروفة لنتيجة منذ البداية، لقد صدر حكم الإعدام على الفقيه الزقاق قبل أن يقاد إلى مجلس أبي عبد الله الشيخ، وكان الفقيه متأكدا من نهايته، عارفا أنه ميت لا محالة وأن أبا عبد الله الشيخ لا يستدعيه ليحاكمه، وإنما ليهيئه قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام، فلم يتردد ولم يجبن، ولم يحاول التملص من تهمته، ولم يفكر في الدفاع عن نفسه أو تبرير موقفه، و إنما صمد صمود الأبطال، وعرف كيف يجعل من محاكمته محاكمة له ولخصمه السلطان أبى عبد الله الشيخ في وقت واحد، قال له السلطان أبو عبد الله الشيخ :


اختر بأي شيء تموت ؟
فأجاب الفقيه الزقاق :
اختر أنت لنفسك، فإن المرء مقتول بما قتل به.
وتملكت السلطان سورته وشدته، وغلبت عليه القسوة والكبرياء والأنانية، وصدمه جواب الفقيه الزقاق، فصاح في المحيطين به من حاشيته وجنوده :
اقطعوا رأسه بشاقور.




وقطع رأس الفقيه عبد الوهاب الزقاق بشاقور، تنفيذا لحكم القوة المنتصرة العاتية الغاشمة، القوة العمياء.

ومضى التاريخ قدما بعد ذلك بالملك المنتصر أبي عبد الله الشيخ من نصر إلى نصر، فاستطاع في مدة قريبة جدا بما أوتي من مضاء وحزم وقوة وشجاعة، أن يجمع أطراف المغرب كلها على طاعته والاعتراف بدولته واجتاز بسرعة فترة العمل من أجل ضمان الاستقرار الداخلي.

شيء واحد فقط، كان ينغص على أبي عبد الله الشيخ نشوة النصر، كان يعذبه ويؤرقه، ويقض مضجعه، كان يحز في نفسه ويؤلمها، هذه الدولة العثمانية الرابضة على الحدود، هذه الدولة العثمانية التي يمتد سلطانها غربا من القسطنطينية إلى الحدود المغربية الجزائرية، تنتظر الفرصة المواتية لتبلغ بجنودها وأساطيلها حدود المحيط.

لقد كان الوالي العثماني بالجزائر هو الذي أمد أبا حسون بالمدد العسكري اللازم، وساعده على إعادة الكرة على أبي عبد الله الشيخ، نصرا لحليف الدولة العثمانية القديم، أو تنفيذا لسياسة مرسومة تريد أن تغتنم كل فرصة مواتية لتشجيع الفتنة في المغرب تمهيدا لاحتلاله واستعماره، مهما يكن فلن يستطيع أبو عبد الله الشيخ أن ينسى أبدا، إن أبا حسون إنما انتصر عليه من قبل، وأخرجه من فاس في حالة منكرة بجيش تركي عثماني.

إن هؤلاء الأتراك على حدود هم الخطر الوحيد الذي يخشاه أبو عبد الله الشيخ على دولته، وإن أطماعهم لن تقف عند حدود المغرب الشرقية، إلا إذا ووجهوا بقوة كبيرة وعزم شديد، وهكذا بدا أبو عبد الله يفكر في الطريقة التي تمكنه من أبعاد الخطر، ومن ضمان استقلال البلاد واستقرارها وأمنها.
لقد دخل أبو عبد الله الشيخ في مناوشات مع الدولة العثمانية من أجل تلمسان لم يعد منها بطائل، ولم تنجح مفاوضات الصلح بينه وبين الوالي العثماني بالجزائر من أجل ضمان سلام دائم على الحدود، لكنه الآن يفكر جديا في أكثر من ذلك، يفكر في أن يطرد العثمانيين من الجزائر نفسها، بل إن طموحه ليمتد به إلى التفكير في أخطر ذلك، إنه يريد أن ( يغزو الترك في مصر ويخرجهم من أحجارها) كما كان يقول.
كان أبو عبد الله الشيخ مهتما بالدولة العثمانية، دائم التفكير فيها، وكانت هي أيضا مهتمة به اهتماما من نوع خاص، كانت تريد أن تبسط عليه وعلى المغرب نفوذها الفعلي عليه وعلى دولته، كانت تريد منه على الأقل، أن يعترف لها بالخلافة، وأن يقر لها بنوع من الإشراف الروحي. إنه لا يعدو في نظرها أن يكون واليا أو حاكما من حكام الأطراف، عليه أن يستمد سلطته الشرعية من دولة الخلافة الكبرى، من السلطان سليمان العثماني، سليمان الكبير.

وبدأت الدولة العثمانية من ذلك، بأن حاولت أن تحس نبض أبي عبد الله الشيخ، لتعرف مدى استعداده واستجابته، فبعثت من أجل ذلك رسولا خاصا إلى المغرب، وعند ما وصل الرسول كان أبو عبد الله الشيخ في تارودانت، في إحدى حركاته التي لم تكن تنقطع.

لم ينتظر الرسول عودة الملك إلى العاصمة، وإنما توجه من توه إلى تارودانت، حيث اتصل بالملك وبلغه رسالة من السلطان سليمان العثماني مكتوبة باللغة التركية، على أن ذلك لم يكن مشكلة إلى الحد الذي يمكن أن نتصوره، فقد كان في جيش أبي عبد الله الشيخ أتراك تخلفوا في المغرب من الحملة التي وفدت من الجزائر مع أبي حسون المريني، وعندما قتل أبو حسون الذي جاءوا لنصرته، لم يجدوا مطلقا أية غضاضة، أو أي تناقض يمكن أن يلحظ، في أن ينضموا لخصمه الذي جاءوا للقضاء عليه، ووجد هو فيهم أيضا جنودا شدادا متمرسين بالحرب، فرحب بهم في جيشه وأولاهم عناية خاصة، فقد كان يرجو بمساعدتهم أن يتمكن من طرد العثمانيين من الجزائر.

مهما يكن، فقد وصل الرسول، ورحب به السلطان، وأنزله ضيفا على رئيس الفرقة التركية في الجيش المغربي، وتولى الرئيس نفسه ترجمة الكتاب إلى العربية، فإذا هو لا يعدو أن السلطان سليمان العثماني يهنئ أبا عبد الله الشيخ بالنصر، ويجزي إليه متمنياته الطيبة بالنجاح والتوفيق، ويوصيه أن يسير في رعيته بالعدل، وألا يغفل أمر الجهاد، ثم يطلب السلطان بكل بساطة أن يدعي له منابر المغرب بصفته صاحب السلطة الشرعية الأولى، وأن يكتب اسمه على العملة المغربية، كما كان الملوك المرينيون يفعلون من قبل مع احتفاظهم باستقلالهم وسيادتهم الكاملة.

لم يكن أبو عبد الله الشيخ في حاجة إلى أن يسمع هذا الكلام لكي يحس قلبه ينفجر غيضا ضد هذه الدولة العاتية المتكبرة، وضد ملكها (سلطان القوارب) كما يدعوه، أو (سلطان الحواتة) كما كان يحلو له أن يسميه أحيانا أخرى، أما وقد بلغ التطاول بالسلطان العثماني إلى هذا الحد، وشرع بالفعل يكشف عن أطماعه وأغراضه، ويمهد لبسط سلطانه على المغرب، فلم يبق هناك من مكان للصبر، ولم تعد هناك من قدرة على الاحتمال، ولا من مبرر للصمت أو لكتمان الشعور بالعداوة والحقد والكراهية ضد دولة بني عثمان.

لم يكتب أبو عبد الله الشيخ للسلطان سليمان العثماني جوابا عن رسالته، وإنما اكتفى بأن يقول للرسول:
( لاجواب لك عندي حتى أكون بمصر، وحينئذ أكتب لسلطان القوارب).

وطار الرسول إلى القسطنطينية ليبلغ سلطان القوارب هذا الرد الكريم.

كان من الممكن جدا أن يثور السلطان سليمان العثماني لهذا الرد، وأن يبعث بحملة تأديبية إلى هذا الخارج عن الدولة الخلافة، المتمرد على سلطانها، المنكر لحقها الشرعي، الذي تأبى عليه كبرياؤه أن يعترف لها حتى بالأقل الممكن الذي لايكلفه شيئا على الإطلاق، والذي تأبى عليه قلة أدبه حتى أن يكتب لدولة الخلافة جوابا يشكر لها فيه التفاتتها الكريمة، ويتملق عظمتها، ويدعو لها بطول البقاء والنصر والتأييد.
كان من الممكن أن يحدث هذا، بل أن التاريخ ليحدثنا أن السلطان قد عزم عليه فعلا، وأصدر به أمره، لكن وزراء السلطان ومستشاريه، الذين يبدو أنهم كانوا عمليين أكثر مما تطيق أعصابه المرهفة، تلطفوا واقنعوا عظمته الخاقانية، أن هذه الحملة ربما ستكلف الكثير جدا، وأنهم مع ذلك يشكون في نجاحها، لبعد الشقة من جهة، ولكون الأساطيل العثمانية لم تجتز قط بوغاز جبل طارق من جهة أخرى، وهو مضيق صعب، قد تكون الملاحة فيه مخاطرة بالنسبة للأساطيل التي لم تعرفه من قبل، ولم تألف السير فيه، وإن من الممكن أن يدرك بالحيلة ما لا يدرك بالقوة، والحيلة مع ذلك إذا لم تنجح فالأمر فيها يسير، والخسارة معها بسيطة يسهل احتمالها، فقد لا تكلف أكثر من حياة رجل واحد، أو بضعة رجال على الأكثر.

واقتنع السلطان لحسن الحظ برأي وزرائه ووافق عليه، وترك لهم أمر تدبيره والسهر على تنفيذه.
كان أبو عبد الله محمد الشيخ لايزال يفكر في همه المقيم المقعد، كان لايزال حتى الساعة يفكر في أمر الجزائر وفي تحريرها من الأتراك العثمانيين، وجاءه الحل في هذه المرة سريعا، أسرع مما كان يتوقع، جاءه الحل في بضعة عشر رجلا من ضباط الجيش التركي بالجزائر، ضاقوا ذرعا بحياتهم في الجيش العثماني، واستبد بهم القلق والضيق والشعور بقلة التقدير، وتعرضوا لكثير من الأذى والاضطهاد، ثم علموا أن في الجيش المغربي فرقة تركية تتمتع بكامل الاحترام والاعتبار والتقدير، فقرروا أن يفروا إلى المغرب، وأن يضعوا أنفسهم تحت تصرف جلالة ملكه أبي عبد الله الشيخ.

ودخل رئيس الفرقة التركية على أبي عبد الله الشيخ ليبلغه ذلك، وليسير إليه أن هؤلاء الرجال، ربما كانوا يديه اليمنى، ورواد جيوشه في تحرير الجزائر لمعرفتهم بها، وبالجيش العثماني الذي يحتلها، ويحكمها بقوة الحديد والنار.

ودخل الضباط الهاربون على أبي عبد الله الشيخ فرأى على حد تعبير بعض المؤرخين المغاربة ( وجوها حسانا وأجساما عظاما) وأفاض الضباط الهاربون في شرح قضيتهم وفي التعبير عن ولائهم وإخلاصهم واستعدادهم لكل ما يمكن أن يطلب منهم.

وكان الضباط الهاربون عند حسن الظن في الامتحانات التي توالت عليهم بعد ذلك، كانوا أسرع إلى تنفيذ الرغبات الملكية من إعلانها، كانوا جنود الملك المطيعة وحراسه الأقربين، وكانوا أيضا رسله الأمناء إلى القواد والأمراء وحكام الجهات في جميع أطراف المغرب، وكان أقصى ما يطمح إليه الواحد منهم أن يحظى بكلمة رضى أو نظرة عطف، وكان الملك من جهته لا يبخل عليهم بشيء من ذلك، بل كان في الحقيقة يبالغ في إكرامهم والحفاوة بهم، ويوصي بإكرامهم أينما حلوا، أليسوا مناط أمله في تحرير الجزائر، وفي تطهيرها من دولة بني عثمان؟

وظل الأمر على ذلك زمنا إلى أن واتت الضباط الهاربين الفرصة المواتية ليعبروا عن إخلاصهم لأبي عبد الله الشيخ بشكل لم يسبق له نظير، كان الملك في إحدى حركاته بجبل درن بالقرب من تارودانت، وكان نائما في خبائه، وفجأة، وفي ظلام الليل البهيم، سمعت في خباء الملك حركة خفيفة، تبعها صوت شديد، واستيقظ الضباط والجنود والحراس والخدم وكل من في المعسكر، وتجمهروا جميعا حول خباء الملك ليسمعوا النبأ الخطير:
لقد قتل الملك، لقد قطع رأسه بشاقور.

والتفت كل واحد من الحاضرين حواليه يتفرس في وجوه لآخرين، ويقرأ الدهشة في عيونهم، والتفت الجميع يبحثون عن الضباط الهاربين، فإذا هم قد هربوا.
لقد أدوا مهمتهم التي جاءوا من أجلها.
وفي القسطنطينية بعد ذلك بمدة يسيرة، فتحت مخلاة، كان فيها ملح ونخالة، كان فيها رأس أبي عبد الله الشيخ، وعرضت الرأس بعد ذلك على السلطان سليمان العثماني، فنظر إليها في غير اكتراث، ثم أصدر أمره الكريم أن توضع الرأس في شبكة نحاس وأن تعلق على باب القلعة.
يقول اليفرني في نزهة الحادي، في ختام حديثه عن أبي عبد الله الشيخ:
وحمل إلى مراكش بغير رأس، فدفن قبلة جامع المنصور في قبور الأشراف هنالك، وقبره شهير.

تنكيت
قال معاوية يوما بمحضر عقيل بن أبي طالب: يا أهل الشام هل سمعتم قول الله تعالى في كتابه العزيز: ( تبت يدا أبي لهب وتب) قالوا نعم ! قال فإن أبا لهب عم عقيل.
فقال عقيل: فهل سمعتم قول الله عز وجل: ( وامرأته حمالة الحطب) قالوا نعم ! قال فإنها عمة معاوية.

دعوة الحق - العدد 8
دعوة الحق - العدد 6
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -