أخر الاخبار

أحمد بن محمد الحزمري ودوره في مقاومة الاستعمار

موسى المودن
عرفت مرحلة النصف الأول من القرن العشرين قيام حركة المقاومة المسلحة المغربية، في كل أرجاءه نتيجة الحملات الاستعمارية المسعورة من طرف كل من الإسبان في الشمال والجنوب، والفرنسيس في الوسط، وأما هذه الحملة الغير مسبوقة، كان المغاربة أمام أمرين، إما الاستسلام لقوات الأعداء، أو المقاومة بالإمكانيات البدائية البسيطة، وقد اختار الكثير من المغاربة الوقوف بشرف وقوة وعزيمة أمام هذه الجيوش الغازية، واختار البعض الاستسلام والتقهقر وحتى العمالة والخنوع.

أحمد بن محمد الحزمري ودوره في مقاومة الاستعمار




وأمام هذا الزحف المتواصل، كانت المنطقة الشمالية أمام وقائع مهيبة، صمدت فيها صمود الأبطال، ودافعت دفاع الشجعان، من أجل الدود عن كرامة أبنائها، وعزة نسائها، وحرمة أراضيها، فكان في الريف الغربي نماذج عدة بذلت الغالي والنفيس في سبيل تحقيق الوحدة والتصدي للأعداء، كالبطل الشريف مولاي أحمد الريسوني والقائد احميدوا السكان، أما في الريف الشرقي والأوسط، فكان هنالك أبطال أخرون لا يقلون قوة وشكيمة عن سابقيهم، كالبطل المغربي محمد أمزيان والصنديد محمد بن عبد الكريم الخطابي وغيرهم كثير.

ونحن في هذا المقال، نود تسليط الضوء على شخصية تاريخية مهمة، كان لها دور كبير في تحقيق الانتصارات المبهرة على العدوان الإسباني، وفي نفس الوقت ساهمت في توحيد الشمال الغربي بمعية القائدين الشريف الريسوني ومن بعده الزعيم الخطابي، واستمرت بطولات هذه الشخصية إلى أن سقطت في ساحة الوغى، مخضبة بدماء الكرامة وحب الوطن.

وانطلاقا مما سبق ذكره، فمن هي شخصية القائد الحزمري محمد أسبوا الملقب باخريرو؟ وماهي مراحل نشأته؟ وما هي جهوده في سبيل التصدي للاستعمار الإسباني؟ وكيف كانت نهايته؟

حظيت هذه الأمة –المغربية- بمجموعة كبيرة من الأبطال المدافعين عن حقوق أهلها وتربة من أسسوا كيانها، كتب للبعض منهم الذكر والتسطير والشهرة، ولم يكتب للبعض الأخر سوى البعض من الذكر بالرغم من أثر الفعل وصدى البطولة، ونحن في هذا الصدد نحاول أن ننقل للقارئ الكريم بعضا من أثار هؤلاء الأبطال. ونخص بالذكر فترة مهمة من تاريخ المغرب، والتي تتمثل في النصف الأول من القرن العشرين، والتي شهدت فيه ربوع بلاد المغرب حركة مقاومة قوية للتصدي للمستعمرين الإسباني والفرنسي.

 صحيح أن التاريخ خلد بطولات رجال عظام، أمثال محمد بن عبد الكريم الخطابي –أسطورة الريف- وقبله الشريف محمد أمزيان، قائد مقاومة الريف في تلك الفترة –سنة 1912م، وكذا كل من القائد موحى أوحمو الزياني، وعسو أبسلام، والصنديد القائد الهيبة، والزعيم الشريف مولاي أحمد الريسوني، والبطل الشهيد احميدو السكان، وغيرهم كثير. إلا أنه ولسوء الحظ لم يعط التقدير الكافي للبعض منهم، ممن حرصوا على التصدي للاستعمار بالغالي والنفسي حتى أخر قطرة من دمهم، وخاصة من كان لهم الفضل الكبير في القيادة والتأثير.

 نخصص الحديث في هذا المقال عن شخصية عظيمة من شخصيات أبطال هذه الأمة، ويتعلق الأمر ببطل اجبالة وغمارة ما بين 1912م، إلى سنة استشهاده –رحمه الله- سنة 1926م بقبيلة بني يدر الجبلية في معركة من أشرس وأشد المعارك التي واجهها الإسبان في زحفهم على تربة الشمال المغربي.

فمن هي شخصية القائد الحزمري اخريرو؟ وما هي ظروف نشأته وتربيته؟ وكيف انتقل في مراتب المقاومة حتى وصل إلى رتبة القيادة؟ وما هي أبرز وأعظم ما أنجز في مسيرته الجهادية والنضالية؟

المبحث الأول: الوضعية السياسية والاقتصادية في المنطقة الشمالية خلال البدايات الأولى للقرن العشرين:
عرفت منطقة الشمال المغربي أوضاعا اقتصادية واجتماعية وسياسية متدهورة خلال البدايات الأولى للقرن العشري، إذا تصادفت هذه المرحلة مع انتشار ما يطلق عليها بسم “السيبة”، وهي خروج المنطقة الشمالية عن سلطة المخزن بشكل شبه كلي، إذ لم تكن للدولة سوى سلطة رمزية على القبائل، فكانت لهذه الوضعية نتائج وخيمة جدا على موقع المغرب في مواجهة الدول الكبرى التي أرادت احتلال بلاد المغرب بالقوة العسكرية. فكانت الأوضاع في هذه المرحلة كما يلي:

 الوضعية السياسية من سنة 1912م إلى سنة 1927م:

عرفت الوضعية السياسية في الشمال المغربي تغيرات سياسية قوية، حيث انتقلت فيها من فترة الاستقرار إلى فترة الصراعات ومواجهة الاحتلال طيلة أربعة عشر عاما. وبعد استباب الأمن بين ربوعها، ستنتقل المنطقة إلى وضعية الاستقرار الطويل الأمد. فقد كانت هذه الفترة من أكثر الفترات التاريخية غنا بالنسبة للمنطقة، لأنها عاشت فيها الكثير من الأحداث التي رافقت الدخول الاستعماري الأول ثم الثاني، وبين هذين الهجومين جرت الكثير من الوقائع والحروب والنكسات وكذلك الانتصارات. وخلال هذه المرحلة، كانت المنطقة الشمالية موزعة سياسيا بين نفوذ كل من:

1: الدولة المغربية:

كانت جل المناطق المغربية قبل سنة 1913م تخضع للنفوذ الرمزي للدولة المغربية، ماعدا مدينة مليلة وسبتة وبعض من المناطق المجاورة لها، إذ كانت يد الاستعمار بدأت تتطاول عليها، ومباشرة بعد توقيع معاهدة الحماية، ستعرف المنطقة غليانا شديدا، إذ ستبرز المقاومة العسكرية كخيار لمواجهة الاحتلالين الاسباني والفرنسي، ومعهما ستفقد الدولة مزيدا من النفوذ الرمزي، إذ سرعان ما ستجتاح المنطقة حركات مقاومة ستكبد الاحتلال خسائر جد فادحة.

2: مناطق نفوذ أحمد الريسوني:

كان الشريف مولاي أحمد الريسوني من الموظفين مع سلطات المخزن في هذه المرحلة، إلا أن حدوث حزازت له مع بعض قادة الاحتلال بسبب قسوته على الأهالي جعلته يصدم مع سلطات الاحتلال في عدة معارك مصيرية، كان معركة تازروت وجبل بوهاشم أخطرها، إذ فقد فيها أحد أكبر قياداته الميدانية، وهو الشهيد الشريف أحمد السكان دفين جبل العلم. وكان الريسوني يسيطر على أغلب جبال اجبالة، وكثير من مناطق غمارة، إلا أنه وبعد قيام ثورة ابن عبد الكريم وسيطرة القوات الاسبانية على كثير من القبائل وتقديم البعض الآخر لفروض الطاعة للمخزن، ستتضاءل مساحة سيطرت الريسوني على المنطقة الى درجة كبيرة.

3: مناطق نفوذ محمد بن عبد الكريم الخطابي:

بعد قيام ثورة محمد بن عبد الكريم سنة 1921م، وهزمه للإسبان في عدة معارك حاسمة ومصيرية، كان أكبرها معركة أنوال المجيدة، سيزحف ابن عبد الكريم على باقي تراب الريف، ومنه سيتوجه إلى أطراف القبائل الغمارية بعد تقديم عدد من قبائلها للطاعة، واندماجها في ركاب المقاومة الريفية، وسيستمر في مواجهة الإسبان إلى أن أجلاهم عن مدينة شفشاون، وحاصر بعدها قلعة الريسوني، وألقى عليه القبض في قريته بتزروت، ونقل بعدها إلى الريف، ثم استمرت حركة الزحف إلى أن حاصر تطوان وبواديها.

بعد أن اجتمعت القوات الاستعمارية في تحالف ثنائي قوامه أكثر من 500 ألف مقاتل، ومئات من الآليات الحديثة، والقنابل الكيماوية، والأسلحة الفتاكة. وقد استطاعت هذه القوات إلحاق الهزيمة بالمقاومة الريفية الجبلية، وعلى إثرها استسلم المقاوم المغربي ابن عبد الكريم سنة 1926م للقوات الفرنسية، ونقل بعد ذلك إلى جزيرة تقع في قلب المحيط الهندي، وبقي هنالك إلى أن فر من قيود المستعمر في الأربعينيات من القرن المنصرم.

4: مناطق نفوذ القوات الإسبانية:

كانت القوات الإسبانية تسيطر على الجيوب المختلفة المعروفة، وهي سبتة ومليلية وبعض الجزر الواقعة على مقربة من الأراضي المغربية، وبعد خطة تقسيم المغرب وفرض الحماية سنة 1912م، بدأت القوات الإسبانية بالاكتساح التدريجي لمناطق الشمال المغربي. وخلال هذا الزحف تكبدت خسائر كبيرة وفادحة، وبقيت سيطرة الإسبان من سنة 1913م إلى سنة 1927 متقلبة، ولم تستب إلا بعد هزيمة المقاومة المغربية، وجمع آخر قطعة سلاح في المنطقة. وعلى إثرها ستنقضي مرحلة حاسمة من تاريخ المقاومة الريفية الجبلية، والتي بصم فيها المغاربة بصمة خاصة كتبت بمداد الفخر والعز. وسيكون للإسبان بعدها السيطرة الكاملة على المنطقة الشمالية التي عرفت بالمنطقة الخليفية.

الوضعية الاقتصادية في منطقة الشمال المغربي من 1913 إلى 1927م:

عرفت منطقة الشمال المغربي تغيرات متلاحقة مع مطلع القرن العشرين؛ حيث أدت الحملة الاستعمارية إلى تدهور في الاقتصاد المعيشي للمنطقة، فتضرر بذلك الاقتصاد المحلي، ونتج عنه تراجع كبير في الإنتاج والتصدير.ولا شك أن الوضعية الاقتصادية للقبيلة الغمارية كانت كارثية في فترة الاستعمار. فبحكم الهجمات المسعورة من طرف الاحتلال من جهة، والقبائل الثائرة من جهة أخرى، صار واقع الاقتصاد في الشمال المغربي مترديا وضعيفا. ولقلة الدراسات التي عنت بالاقتصاد المغربي قبل سنة 1927م، سوف نستقي ما وصلنا من معلومات حوله قبل ثلاثين سنة من تاريخ استسلام المنطقة الشمالية؛ حيث قام أساسا على الفلاحة التقليدية، والصيد البحري، ثم الصناعة الخشبية والمعدنية. وهذه أبرز المجالات الاقتصادية التي اعتمد عليها الاقتصاد الغماري في تلك المرحلة:

الفلاحة:
كانت الفلاحة في تلك الفترة فلاحة تقليدية بامتياز، تعتمد في كل جزئياتها على أدوات بدائية، من قبيل المحراث الخشبي، والفؤوس في فلاحة الأرض، والمناجل والمدراة والحيوانات في الحرث والحصاد ودرس المحصول. كما كانت المنتوجات الفلاحية المزروعة في المنطقة تعد على رؤوس الأصابع، فقد أشار موليراس إلى أن حظ المنطقة من المزروعات ضعيف جدا، وأن أغلب الساكنة يعتمدون على القنص وتربية الماشية أكثر من اعتمادهم على الفلاحة. وتعمل النساء في الحقول أكثر من الرجال، فهن يجهدن أنفسهن في زرع الحقول، لأنهن ملزمات بقلب الأرض بواسطة الفؤوس[1]. أما الرجال، فيقضون أغلب وقتهم ممددين على الحصائر بالمساجد، أو مستمتعين بالقنص ببنادقهم وبحيوان ابن مقرض “النمس”. وهم يمتنعون عن الرعي، ويتركون المهنة للطفلات الصغيرات. بالإضافة إلى تعليم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة[2].

وهذه أبرز المنتوجات الفلاحية التي يزرعونها: الفول، القمح، اللوز، الجوز، الزبيب، التين، العدس، الشعير، طابة، الكيف، الذرة، القمح، الخل، البطاطس، الكرز، الزيتون، الصامت، الليمون…

إن أغلب هذه المنتوجات الفلاحية كانت توجه إما نحو الاستهلاك المحلي، أو التصدير للقرى والمدن المجاورة.

أما على مستوى الثروة الحيوانية؛ فإن المنطقة كانت تزخر برصيد مهم منها. وكان أغلبها موجها نحو الاستهلاك أو التصدير. وكانت المنطقة تزخر بأصناف محددة من الحيوانات الأليفة التي تستهلك لحومها (الماعز، العجول والأبقار، الخراف). وفي نفس الوقت كان سكان المنطقة يستغلون الثروة الحيوانية المتوحشة في الاستهلاك المحلي، إذ كانوا ماهرين في القنص، بل وكان العديد منهم يعتمد على القنص كمصدر لعيشه اليومي. وكان القنص يكثر في المناطق ذات الكثافة الغابوية[3].

الصناعة:
كانت الصناعة في المنطقة الشمالية الغربية صناعة بدائية، تقوم على تسخير الموارد المتوفرة. وقد تركزت الصناعة المعدنية في بعض المناطق الغمارية، وخاصة قبائلها الساحلية، وهذه أبرز الصناعات التي كانت منتشرة في تلك الفترة:

الصناعة المعدنية:
ظلت الصناعة المعدنية تقليدية إلى فترات متأخرة، ويدل على ذلك الوصف المقدم من طرف مولييراس، حيث يقول في معرض حديثه عن الصناعة المعدنية في المنطقة: “إن هذه المنطقة المليئة بالتلال، تصبح قبلة للباحثين عن الذهب، فهذا المعدن المقدس يوجد في كل مكان؛ في الوديان والتلال وحتى في أزقة القرى المبنية فوق مناجم قديمة لم تستغل إلا بشكل سطحي. ومعلوم أن الوسائل الحديثة لاستغلال المعادن الذهبية والفضية، غير معروفة بالمغرب؛ ولم تحقق الصناعة المعدنية بهذا البلد أي تقدم، منذ مئات السنين”[4].

وكانت تجري في هذه المنطقة (بني بوزرة الغمارية) حسب مولييراس، تجارب عديدة لفصل الذهب عن باقي المعادن، إلا أن هذه التجارب البدائية لم تكن تكلل حسب قوله سوى بالفشل، بل وفي بعض الأحيان إلى نهاية مؤلمة. وكانت هذه العملية تتم عبر اعتماد قدور وقوالب غريبة وأدوات أخرى لا تقل غرابة، مما قد يثير السخرية والشفقة على أهالي هذه الأوطان حسب وصف الكاتب[5]. كما كانت هنالك صناعة معدنية أخرى، يختص بها أهل بني زجل، حيث يقومون بصناعة البارود والرصاص الذي يستعمل في القنص[6].

ونجد في المقابل، “انتشارا لصناعة النقود لدى قبيلة بني بوزرة الغمارية، وهي صناعة النقود الذهبية الفضية، بواسطة قوالب مخصوصة لهذا الغرض؟ فالمادة الأولية موجودة في القبيلة؛ والقوالب المعدنية تصنع من طرف عمال مهرة؛ لذلك، فإن النقود تكون شبيهة بالنقود السلطانية؛ ويجب أن يكون المرء خبيرا للتمييز بين هاته وتلك”[7].

 وهذا الكلام الذي ضمنه المؤلف يؤكد تناقضا صريحا في أقواله، لأنه يقول بأن تجارب الغماريين في استخلاص الذهب بدائية وتبوء كلها بالفشل، ثم يقول في ناحية أخرى أن صناعة النقود مزدهرة بالمنطقة وتنافس النقود الشريفة، وأنه لا يمكن اعتبارها نقودا رديئة مادامت تنافس النقود الشريفة[8]. فهل كان الغماريون حقا ماهرين في استخلاص المعادن وسك النقود؟

انطلاقا من الإشارات التي ذكرها المؤلف، يمكننا القول بأن الصناعة المعدنية في المنطقة الشمالية كانت ضعيفة وبدائية، وأن أهالي المنطقة كانوا شغوفين بالبحث في مجال صناعة المعادن، بالرغم من قلة الوسائل وسلبية النتائج.

الصناعة الخشبية:
تمتلك منطقة الشمال الغربي المغربي ثروة غابوية هائلة، ساهمت في ازدهار صناعة الخشب وتعدد استعمالاته، بل وتصديره إلى أماكن أخرى[9].

ومن أهم الأشجار المتواجدة بغابات القبيلة الغمارية، نذكر: شجر الأرز والصنوبر والسنديان والسرو[10]. وكانت الغابات الجبلية الكثيفة “تستغل بشكل فظيع، حيث تقطع أجمل الأشجار بدون نظام، من أجل ربح المال فقط وترسل الروافد الضخمة إلى مدينة تطوان بواسطة المراكب”[11].

ويشتغل الأهالي الذين يقطنون بالقرب من الغابات الكثيفة في مهنة النجارة، “حيث يصنعون الألواح والأبواب والصناديق والمغازل. ويستخدم واد أورنغا -الذي يمكن عبوره بالمراكب من أعلى تازروت إلى مصبه، لنقل الخشب المصنوع. وفي الأماكن غير العميقة من النهر، ينقل الرجال خشبهم بأيديهم في ظروف صعبة جدا، ثم يعبرون مسالك جد ملتوية إلى أن يصلوا إلى خليج الجبهة، حيث تنقل المراكب القطع الخشبية إلى تطوان وقلعية”[12]، قصد استعمالها في البناء والنجارة.

إن صناعة الخشب في المنطقة الشمالية الغربية كانت في عمومها صناعة تقليدية، يسد بها الأهالي حاجياتهم الضرورية، إلا أنه في نفس الوقت كان جزء من الثروة الغابوية يوجه للتصدير إلى المدن والمناطق التي تقل بها الغابات وخاصة القريبة من المناطق الغمارية.

التجارة:
كانت الحركة التجارية في المنطقة الشمالية الغربية تتم عبر المنافذ البحرية والبرية، حيث كانت الموانئ البحرية نقاطا تجارية مهمة، إذ كانت تربط بين المراسي الشمالية من جهة، وبين مراسي الدول الأوربية من جهة أخرى، فكانت بذلك قبلة للمبادلات التجارية، ومصدرا مهما لدخل خزينة الدولة المغربية. كما أن المبادلات الداخلية كانت تشهد نشاطا مهما بين البادية المغربية، وحواضرها المختلفة، كبادية تطوان ومركزها الحضري، وبادية طنجة ومركزها الحضري، وبادية الشاون ومركزها الحضري.

– موانئ الصيد البحري:
لقد ميز الله المنطقة الشمالية الغربية بطبيعة خلابة، وبموقع استراتيجي يطل جزء منه على البحر الأبيض المتوسط، وهذا الجزء يضم عدة مراسي، ونذكر من أهمها:
– مرسى مرتيل ومرسى الفنيدق.
– مرسى أمسا، ومرسا أزلا، وهي من المراسي القريبة من مدينة تطوان.
– مرسى واد لاو، وهي من المراسي المشتركة بين القبيلة الغمارية وقبيلة بني سعيد.
– مرسى قاع أسرس، من جهة الغرب.
– مرسى اتريغة (ترغة)، ثاني أهم مرسى جهة الغرب أيضا؛ ويوجد على بعد عشرين كيلومتر.
– مرسى “تيجساس”، ويقع على بعد حوالي عشرون كيلومتر من اتريغة.
– مرسى أمتار، ويأتي مرسى تيجساس.
– مرسى أورنكا، ويلي مرسى أمتار.

ويمارس سكان هذه الناحية مهنة الصيد بسكينة في مياه الخلجان الصغيرة المليئة بالأسماك[13]. كما أنهم يستغلون مهارتهم في الإبحار قصد نقل السلع والبضائع من وإلى الموانئ الأخرى.

المبحث الثاني: التعريف بشخصية المقاوم محمد بن أحمد الحزمري، وأبرز المراحل في حياته
عرف الشمال المغربي خلال المرحلة الأولى من الحماية وإلى غاية سقوط آخر مركز فيه، ظهور كثير من الأبطال الذين تجندوا للدفاع عن وحدة الوطن وحوزته، سواء من العلماء والصلحاء والقادة الأفذاذ، أو من عامة الشعب. ونخصص الحديث هنا لواحد من هؤلاء، وهو: القائد الحزمري محمد بن أحمد أسبو، الملقب باخريرو.

1: نسب القائد اخريرو ونشأته والتحاقه بالمقاومة:
–  اسمه ونسبه:
هو أحمد بن محمد أسبو الحزومري، الملقب بخريرو، قائد وبطل من قبيلة بني حزمار الجبلية، كان من كبار الأبطال الذين قادوا المقاومة المغربية، وانتصروا في عدة معارك فاصلة[14].

– مولده ونشأته:
ولد المجاهد الصنديد أحمد بن محمد أسبوا الحزمري بمدشر دار غازي جماعة الواديين، بقبيلة بني حزمر حوالي 1868م، وكان ينتمي إلى عائلة فقيرة. كان منذ طفولته راعيا لدى أسرة “الحرطيطي” حيث نشأ، وقد عاصر “اخريرو” منذ نعومة أظافره اضطراب المغرب وانحلاله، كظهور “الروكي” بوحمارة وانعكاس ذلك على تطوان بهجوم القبائل الجبلية عليها، وسقوط المولى عبد العزيز سنة 1908م[15].

بعد ذلك عاصر اعتلاء المولى عبد الحفيظ سدة الحكم، وتوغل الجيوش الفرنسية والإسبانية تدريجيا في التراب المغربي، ثم مقاومة هذه التوسع من طرف قادة المقاومة في تلك الناحية، وقبل هذا كله ظهور شخصية الزعيم الجبلي “أحمد الريسوني”، واتساع شهرته في كل من قبائل اجبالة وغمارة، ومرورا بتوقيع معاهدة الحماية وتنازل المولى عبد الحفيظ على العرش واعتلاء المولى يوسف بعده سدة الحكم مباشرة.

 كانت هذه الأجواء المشحونة بالأحداث المتلاحقة من أهم الأسباب التي ساهمت في بناء شخصية القائد الصنديد المحناك الشاب أحمد بن محمد اخريرو الحزمري، وجعلته في فترة قيادة الريسوني من كبار القادة الذين سلطت عليهم الأضواء، ثم بعد ظهور ثورة الريف زاد سطوع نجم هذا الأخير بعد توليه قيادة القبائل الجبلية.

لم يكن يتجاوز سن الرابعة عشر حينما احتل الجنرال “ألفوا” مدينة تطاون سلما. ثم بعد هدوء القبائل الجبلية التي هدأت قبيلته في جملة القبائل التي انقادت للتهدئة. بعد وفاة المقيم العام الإسباني كوميز جوردانة -سنة 1918م-، خلفه الجنرال برينغور، والذي قطع العلاقات الودية مع الزعيم الريسوني وقرر غزو مقر الريسوني والجبال المحيطة به، والتي كان غرضها إضعاف سلطة الزعيم الريسوني، وإلحاق القبائل الجبلية بسلطة المخزن، فكانت هذه الحرب بداية سطوع نجم القائد الحزمري على الساحة العسكرية[16].

في هذه الأجواء، تمكنت الجيوش الإسبانية من بسط سيطرتها العسكرية على عدة مناطق متاخمة لمدينة تطوان بسلطة العسكر التي كان يجابهها المقاومون الضعفاء بقوة الإيمان ويقين النصر وإرادة الصبر. فاحتلت هذه الجموع الضخمة في سنة 1919م قرية بن قريش الاستراتيجية، والرمزية بالنسبة لأتباع الريسوني، الذين اتخذوا منها رباطا متقدما للجهاد ضد القوى الغزية، في هذه الأثناء تراجع الريسوني وجل المقاومين إلى عمق الأراضي المتاخمة، مستغلين الأدغال الموحشة، والمسالك الوعرة في تضييق الخناق على القوات الغازية.

بعد هذه الهجمة الخاطفة من طرف الإسبان، التف رجال القبائل المحيطة بالحرم العلمي على الشريف الريسوني، فكان من بينهم الطالب محمد الحرطيطي، -الموالي المخلص للريسوني، ومع الحرطيطي ذهب راعيه “اخريرو” الذي كان عمره آنذاك لا يتجاوز العشرين سنة أو فوق ذلك. كما اجتمع حول “صقر الجبل” -كما كان يقلب، ثوار بارزون مثل: الطويلب، كورطيطو، الشاوني، …إلخ، يصحب كل منهم المتطوعة من قبائلهم. أما قيادة الأركان، فقد عهدت إلى البطل الشرس ذا الصيت الواسع: سيدي احميدوا السكان[17]. في هذه الأثناء، كان الشيخ الطالب الحرطيطي والقائد الراعي –اخريرو- يعيشان في مدشر السكان “بني عروس”، وهو مدشر رئيسه المباشر[18].

2: خلاف القائد اخريرو مع المقاوم الريسوني:
بدأ نجم اخريرو يسطع كما قلنا مع الهجمة الاستعمارية على قرية تازروت وتصدي المقاومة المغربية لها. في هذه الأثناء نظمت الجماعة التي ينتسب إليها اخريرو سنة 1920م خطة محكمة لخطف ضابط من القناصة، ينتمي إلى حامية “إيزردوي”، وقد كللت هذه الخطة الشجاعة بالنجاح المبهر، استقبلتها قلوب الجبليين بالفرح والسرور، مما أكسب هذه الجماعة سمعة عالية وطيبة بين الأهالي، وزاد من عزيمة هؤلاء، وحثهم على وضع خطط أكثر تأثيرا من سابقتها، فهيئوا لهذه الخطة استراتيجية خطيرة، تجلت في ضرب العمق الاستعماري للإسبان، وهو عاصمة الشمال المغربي، عن طريق خطف أحد أفراد عائلة الطريس “ابنته”، وشخصية وزير الأحباس، “علي السلاوي، وذلك سنة 1921م[19].


دخل هؤلاء الأبطال إحدى عرصات الضاحية المعروفة بزيانة[20]، قرب باب السعيدة من تطوان؛ حيث كان يقطن الوجيه السيد علي السلاوي الذي كان مديرا عاما للأحباس. أخذ هذا الأخير بصحبة بنات باشا تطوان المرحوم الحاج أحمد الطريس التي كانت متزوجة بحفيد السلاوي، المستدعى لأحد الأعراس، وحيث أن ضعف حالته الصحية حالت دون توجهه للحفل، أناب عنه حفيده. في هذه الأثناء اقتحمت جماعة (اخريرو) العرصة محجبة بظلام الليل، وانقض المقاومون على الطريس الذي كان طريح الفراش، وعلى زوجة حفيده بعد شل حركة الخدم الذي كان بالعرصة[21].

بعد هذه الضربة القاصمة، نقل المقاومون هؤلاء الأسرى بتدبير من الشريف الريسوني إلى الحصن، ومن هناك وقع افتداؤهم في أواخر يونيو 1922م. في هذه الأثناء، كانت سمعة البطل اخريرو في تزايد مستمر بين الأهالي في الجبال المحيطة بتطوان، على حساب سمعة وبأس الشريف الريسوني، الذي جرد من أغلب قوته بعد الهجمة الشرسة على مواقعه المهمة في أغلب قبائل الجبل[22].

وبعدما ظهرت حركة محمد بن عبد الكريم في الريف، كانت بوادر الخلاف تتجذر بين القائد الشاب والزعيم المسن، -وحيث رأيت شبح المشيب يطل على صاحبه، فبوادر التقهقر في مواقفه ومكانته تضعف- لأن هذا الأخير لم يكن مسرورا من الحصة التي أعطيت له من مبلغ الفدية، وأخذ يشعر بعدم الارتياح بقربه من الشريف الذي فقد هيبته المعهودة، ولم يعد ذاك الذئب الماكر الذي ترتعد من هيبته قلوب أهل الجبال. وبالتالي وجد القائد اخريرو نفسه مهانا من طرف الزعيم الذي منحه القليل مقابل هذه العملية الصعبة والخطيرة، وما كان ليمضي كبير وقت ليظهر استياءه من تصرفات الذئب العجوز[23].

3: سقوط عاصمة الريسوني- تازروت- والتحاق اخريرو بالمقاومة الريفية:
في شهر ماي من سنة 1922م، استولى المقيم العام القائد الأعلى للقوات الإسبانية على مركز قيادة الريسوني “تازروت”، وأرغم الشريف الريسوني على الاعتصام بأدغال جبل بوهاشم، وخلال هذه الهجمة الشرسة، فقد الريسوني أقوى قادة معاركه، المعروف ب-احميدو السكان- وعلى إثر هذه الهجمة المسعورة خضعت أغلب القبائل المسيطر عليها للقوات الغازية، وظهر بذلك عجز قوات الريسوني على مجابهة تعزيزات القوات الغازية المؤلفة من طوابير عدة مدججة بأعثى أنواع الأسلحة المتطورة[24].

كانت هزيمة أنوال الساحقة، قد ألقت بظلالها على القوات الإسبانية التي تقهقرت من جميع مراكزها بعد أن تلمست القبائل إمكانية الثورة والانتصار عليها من جديد، فظهرت حركات تمرد قوية ضد الاحتلال الأجنبي، زاد من زخمها الزحف الريفي بمعية القبائل الغمارية الملتحقة بالجيش الريفي على المجال الغماري والزروالي. لكن الأحداث في الجهة الغربية كانت تسير في عكس تيار الشرق، فقد بدأ الريسوني اتصالاته مع القادة الإسبان للوصول إلى التهدئة، وبالفعل تم التوصل إلى قرار للتهدئة بين الزعيم العليل والقادة المنهزمين، وعليه عاد الزعيم إلى قرية الزينات، والذي كان محاطا بجو مليء بالدسائس والمؤامرات والضغوط من أجل توزيع المناصب. وفي هذه الأثناء برز اخريرو، بعد أن انتظر كثيرا للانتصاف من فدية السلاوي، وصار يعرف أنه بإمكانه أن يأخذ حقه، وذلك بمنحه قيادة قبيلة بني حزمار الجبلية، ولكن في سياق ذلك، كان خصمه الحرطيطي –الذي لا ينسى الريسوني وفاءه له في شدته، بدأ بالتربع على عرش قيادة القبيلة[25].

أحس اخريرو بضعف الزعيم الريسوني، ومع هذا الضعف ظهر أمام القائد الشاب الطموح بديل لا يقل جرأة ووطنية ووفاء من سابقه، بعد أن ملأت سلسلة انتصاراته أرجاء المغرب من جنوبه إلى شماله. فتبادرت إلى ذهنه إمكانية ربط الاتصال بالقائد الريفي الشاب، من أجل توحيد الجهود في سبيل طرد القوات الغازية من جهة، وتمتيعه بالمكانة الخاصة التي لم يجدها عند سلفه من جهة أخرى. وفي نفس الوقت، ترك تعيين الريسوني للحرطيطي قائدا على بني حزمر أثرا سيئا في نفس اخريرو، مما جعله يقف في وجه الشريف، وهو في نفس الوقت على اتصال بابن عبد الكريم الذي يرى بوضوح الخدمات المهمة التي يمكن أن يقدمها له في مشروعه للزحف على الشمال الغربي للناحية الجبلية والغمارية، بل وعلى استعداد لتقديم كامل التسهيلات بقصد الزحف على ما تبقى من الجبال المحتلة[26].

تيقنت القوات الإسبانية من تأثير القائد الحزمري، وبدأت تفكر في فتح باب الحوار معه بعد أن نجحت هجماته المدوية على واد لاو، وتحريره إياها من قبضة الإسبان. كانت المحادثات الإسبانية في عمومها مماطلة من أجل كسب مزيد من الوقت لتهدئة الأوضاع وامتصاص قوة الضربة الموجهة للقوات الغازية. وأثناء هذه المفاوضات، كان القائد اخريرو يرى أن الريسوني انتقص منه، ونكث بوعوده بتوليته لصديقه الحرطيطي قائدا على القبيلة بعد أن استفاد من جهوده في تحقيق مكاسب قوية على الأرض في إطار مفاوضات الشريف مع المخزن والإسبان، والتي استفاد منها الريسوني امتيازات كبيرة وجديدة. لكن جل هذه المفاوضات باءت بالفشل، بعد أن توطدت علاقة الأخير مع بن عبد الكريم[27].

لم يستسغ القائد اخريرو تولية الشريف للقائد الحرطيطي، فقام بجمع المتطوعة من كافة قبيلته والقبائل المجاورة، وجهزهم بجهاز أرسل له من طرف عبد الكريم. ومع هذا المستجد كانت القوات الإسبانية بين نارين، في الشرق عبد الكريم والقبائل الريفية والغمارية المتحالفة معه، وفي الغرب صديق الريسوني القديم، وقائد محلته الجديدة، الذي اكتسب مزيدا من التعاطف حتى في قبيلة غمارة، وصارت له كتيبة في قبيلة غمارة والحصن وبني يدر وبني ليث والحوز وغيرها، في انتظار أن يتضاعف العدد عندما يقتنع الجميع بضعف الذئب الهرم[28].

وعلى إثر ذلك، صار اخريرو يرى في مجهوداته قنطرة تصله بالعظمة، وتزيل عنه قيود القائد الحرطيطي، والذي لن يتركه يتصرف بحرية في قبيلة بني حزمر. هذه المعنويات زادت من زخم عمله، وأدت بالقبيلة وأهلها إلى مزيد من التعاطف والتكتل في صفه، بعد أن ثار على سلطة الريسوني، وصارت بذلك أغلب قبيلة بني حزمر في صفه، رافضة بذلك سلطة الحرطيطي[29].

انتهت المحادثات بين اخريرو والإسبان، فكان رأي القبطان (Ccno) على حق حينما قال: ” إنه ليس من السهولة إدراك مدى الأحداث إذا ما قطعت المحادثات مع اخريرو”. فمباشرة بعد انتهاء هذه المحادثات، توجه اخريرو إلى قبائل غمارة، ومنها إلى الريف، فأخلص الوعد وعاد بالجيوش لمحاربة الإسبان، وإسقاط عش الزعيم المسن[30].

اجتمع اخريرو بالزعيم الخطابي، وذكر له مستوى الإحباط الذي بلغ بالأهالي في ناحية اجبالة من تصرفات الريسوني، فعرض عليه خدمته. ونتيجة لذلك رجع بعد مدة وجيزة من الريف في حركة –كتيبة- مؤلفة من عناصر ريفية وأخرى غمارية، كانت أول ما قامت به حصار “أمتار”، وأثناء هذا الحصار، قام عملاء له بحشد الناس، وتهييج الأنفس، وتهيء الميدان، لتقوم بؤر الثورة التي أخذت تتفجر في مختلف النقاط بمنع أي إمدادات تتجه نحو مركز واد لاو، مما اضطر الجنرال بريمو دي إلى اتخاذ خطوات دفاعية. فأضحى بهذا العمل اخريرو زعيم الثورة في كل من قبائل اجبالة وغمارة[31].

وأما تفاصيلها الدقيقة، فقد جرت سنة 1924م؛ حيث قامت القوات الغمارية والجبلية بمعية قبائل بني سعيد، وقوات بن عبد الكريم، بمحاصرة القوات الإسبانية في معسكرها في واد لاو، فأرسلت النجدة الأولى إلى كوب دسته التي كانت محاصرة من جميع جهاتها، فأفنيت بأجمعها، فتلتها الثانية والثالثة في الهزيمة والفناء. كان الكومندان افرنكوا يومئذ بواد لاو، فهرول إلى تطوان، يعرض نفسه وجنوده لإنقاذ كوب دسته. فمشى إلى قصده، وما أدركه، لأن الثورة كانت امتدت إلى ضواحي شفشاون وتطوان، فقطعت المواصلات بين البلدين وطنجة”[32].

بعد هذا الانتصار الساحق، أرسل “الخطابي أخاه ليسمح لوفد بالذهاب إلى الريسوني يدعوه للتعاضد والتعاون، فعاد الوفد خائب الأمل، ثم بعث خمسة وعشرين من رجاله يطوفون في قرى الأخماس، لبث دعوة عبد الكريم، والحث على مناصرته، فكانت خزانة أولى تلك القرى وآخرها. فقد رحب الأهالي بهم واستضافوهم، ثم هجموا عليهم بالسلاح في الليل، فقتلوا خمسة منهم وقبضوا على زعيمهم، ففر الباقون هاربين”[33].

بعد “الحادثة المفجعة، أُرْسِلَ اليزيد بن صالح الغماري قائد بني ارزين يومئذ، وكبير قواد عبد الكريم، في حملة تأديبية إلى الأخماس، فدارت رحى القتال بينهم وبين تلك القبيلة، وكانوا منتصرين. قتلوا من رجالها وشردوا، ثم حرقوا القرية التي غدر أهلها برسل السلم إليهم”[34].

في هذه الحملة، “كان عدد القواد من قبائل اجبالة وغمارة لا يستهان به، وكان على رأس هذه الكتائب التي حررت أغلب المناطق المحتلة، كل من القواد: أحمد اخريرو الحزمري، قاسم بن موسى، أحمد قريط. والقواد الشبان: أحمد المصلوحي اليحمدي، اليزيد بن صالح الرزيني، الرمبوق الحساني، البوتغراصي الخالدي، أحمد بن سعيد الحساني. وكانت خطة قادة الجيش تقضي بانسحاب الإسبان من المدينة بقصد الالتفاف عليه ومن ثم القضاء عليه”[35].

في سنة 1924م: “سينسحب خيرونا وكتيبة من اللفيف الأجنبي بقيادة افرنكو ليلا لينجو بجنوده من جيوش المقاومة المتحصنة من وراء الجبال، فكان المصير ليلة ممطرة وأوحال، انتهت بعشرات القتلى والجرحى والمعطوبين. فقتل على إثرها الجنرال سرانو، وجرح الجنرال بيرنغر، وعدد غير قليل من الضباط”[36].

بعد “انتصار اخريرو والقائد الغماري بن صالح على قبيلة الأخماس، وتحريره لمدينة شفشاون، زحفوا على قلعة الشريف الريسوني “تازروت”، مقر صديق الأخماس، وعونهم العنيد، فالتقت هنالك بنادق بن صالح –تسعمئة منها- بخمسمئة من بنادق الريسوني، فدامت المعركة يومين، قتل فيها خمسون من رجال عبد الكريم، ونحو مئة من حماة الشريف”[37].

في سنة 1924م: “وبعد انسحاب فيالق الجنود الإسبان من مدينة الشاون، ستلحقهم جيوش المقاومة الغمارية والجبلية والريفية إلى قبيلة بني حسان، عند سهل يسمى بالريفين، فقام المقاومون بتطويقهم هناك، وأنزلوا بهم خسائر فادحة جدا، في معركة حامية الوطيس أطلق الإسبان عليها “معركة خندق الموت”، وأطلق عليها المقاومون “معركة عين الحمراء”، وذلك لهولها الشديد. وقد تزعم هذه المعركة من قبائل غمارة واجبالة كل من: أحمد الدنفيل، محمد ولد الطحان، عبد الرحمن الشيار البوحلي، زري الدركولي، محمد ولد التنوك، أحمد حفوظ ولد الشهبا، أحمد اخريرو الحزومري، ولد اسليمان، أحمد قريط، محمد القيسي، محمد الدوبهري، عبد الكريم التناج. وكانت هذه المعركة تعد الثانية في أهميتها بعد معركة أنوال المجيدة”[38].

بعد تحقيق الانتصارات الساحقة ضد الجيوش الاستعمارية وقوات الريسوني، ألحق عبد الكريم قيادة قبائل بني حسان وبني حزمار وبني ليث وبني سعيد لاخريرو، إلا أن الارتياب من شخصية اخريرو كان يطغى على القيادة السياسية الريفية، بسبب فشل اخريرو في حصاره لكدية الطاهر سنة 1925م، تلك العملية التي كان لها بعد استراتيجي بالنسبة لابن عبد الكريم الخطابي، إلا أن هذه العملية كان لها أثر محدود، في مقابل الهجمات الإسبانية التي بدأت تتقوى بفعل المساندة الفرنسية والمخزنية للإسبان. إلا أنه في بعض الأحيان كان يتجاوز هذا الضعف بسبب التعزيزات التي كانت يتوصل بها من قبيلة غمارة.

المبحث الثالث: مظاهر مقاومة القائد اخريرو للاحتلال الإسباني ونتائجها

1: أهم المعارك التي خاضها ضد القوات الإسبانية وبعض نتائجها:

نكتفي بذكر بعض ما غنمه القائد اخريرو في معاركه ضد القوات الإسبانية، ويتعلق الأمر بالمعركة التي تلت تقهقر الإسبان وانسحابهم من مدينة شفشاون، فبعد انسحاب الجيوش الإسبانية من المدينة خطط كل من أخ عبد الكريم والقائد اخريرو في عرقلة هذا الانسحاب، فأوفدوا القائد بحوت فتفقد الجبهة وأشار بقطع الطريق على المنسحبين الذين كانوا حوالي أربعين ألف رجل بقيادة الجنرال “إيزبورو”، فلم يهجم المقاومون على المدينة لقدسيتها، فتركوا القوات المعادية تنسحب.

حينما توقفت القوات المعادية نزل المجاهدون من الجبال المحيطة وزحفوا عليهم وتحول الانسحاب إلى هزيمة منكرة، وقتل على إثرها الجنرال “سيرانو” مع ألف من الجنود، كما جرح الجنرال ” بيرانجير”، وقتل الضابط الذي خلف “سيرانو”، وكانت طريق الانسحاب مليئة بالجثث حتى أن صحفيا حد 600 جثة في ساحة لا تزيد عن مساحة مقر وزارة الحربية بمدريد، وكانت الطيور والكلاب تأكلها، وكان الفضاء مليء بالروائح الكريهة، ولم يصل الفارون من الجند إلى تطوان إلا في 13 ديسمبر، وكانت الخسائر من القتلى: جنرال واحد، والكولونيلات 6، والكمندرات 8، والضباط الآخرون 175، والجرحى 600 ضابط، والقتلى 17000. ونشرت “النشرة الرسمية لوزارة الحربية الإسبانية” إحصائيات غير كاملة، وهي:

1: الضباط العامون- السامون وغيرهم- الذين قتلوا من يونيو إلى ديسمبر 1924م بلغ عددهم 190، يضاف إليهم المفقودون المقدرون ب 60، والجرحى 70.
2: الجنود القتلى 3800
3: الجنود الجرحى 14000
4: الجنود المساجين والمفقودين: 2500.
مجموع الخسائر 21250.

وهكذا كانت كارثة انسحاب الإسبان من شفشاون شبيهة بكارثتهم في أنوال، واعترف “بريمودي” قائلا: “لقد هزمنا ابن عبد الكرم، إنه يملك تفوقا هائلا من حيث الأرض والأنصار المتعصبون، أما جنودنا فقد سئموا الحرب وهم يخوضونها منذ سنوات، وهم لا يرون سببا يدعوهم إلى القتال والموت من أجل هذا الشريط من الرض العديمة القيمة”[39].

2: هزيمة الزعيم الخطابي واستشهاد المقاوم البطل اخريرو:

بعد انهزام الخطابي في سنة 1926م، واستسلامه للقوات الفرنسية، سيكون أثر هذا الاستسلام على القبائل الغمارية واضحا، فقد انهارت أغلب المراكز العسكرية، ولحق بالإسبان كثير من قادة هذه المراكز، وبالتالي صار اخريرو ومن معه من الثوار في جملة الهاربين من القوات الإسبانية الذين لا يستطيعون الاستسلام بسبب بطولاتهم السابقة ضد القوات الاسبانية والمخزنية، لذلك صاروا يضغطون على القبائل الأخرى لرفض الاستسلام للقوات الإسبانية والمخزنية، إلا أن الأوضاع كانت تنذر بالأسواء، فقد سقطت شفشاون في يد الإسبان، واستسلمت بعض القبائل الساحلية، ومع هذه المستجدات أيقن اخريرو ومن معه بضرورة المقاومة إلى أخر رمق[40].

خلال هذه المرحلة العسيرة من صراع اخريرو ضد الإسبان والمخزن، لم تتوقف مساعي الإسبان والمخزن من أجل ترغيب اخريرو في الاستسلام، إلا أنه كان يرى أن الاستسلام لن يكون ملائما إلا بعد يوليوز 1926م، أما بعد استسلام عبد الكريم، فلا مجال لذلك، فرجاله الأشاوس يقفون أمام ذلك، فليس من السهل إقناع الغماريين والجبليين ممن ضحوا في سبيل حماية الوطن لقرون عدة بالاستسلام، لهذا كانت المقاومة هي الحل[41].

بقي المجاهد أحمد اخريرو يقاوم في صفوف المقاومة الغمارية والجبلية مدة 6 أشهر كما أسلفنا، وكانت حرب عصابات، وفي أواخر سنة 1926م، واصل القائد اخريروا القتال فدارت بينه وبين إسبانية معارك عديد، ويوم 3 نونبر 1926م، وقعت معركة في مركز يسمى “كدية السبيط”، يقودها الإسباني سان خورخو، والتي قادها بنفسه معية مجموعة من ثوار الجبال الغمارية والجبلية، وثوار قبيلة بني يدر، حاولوا على إثرها صد تقدم هذه الفرقة التي كانت تتجه إلى قلب مركز المقاومين، إلا أنه بعد مناوشات قوية، توقف القتال فجأة، ولم يفهم السبب، واتضح فيما بعد أن البطل اخريروا قد لقي مصرعه في تلك المعركة[42]. حيث استشهد في ساحة الشرف أثناء اشتباكات مع الأعداء، فحمل أنصاره جثته إلى جبل بني عروص، حيث دفنوها على مقربة من ضريح مولاي عبد السلام بن مشيش.

إن الذي خرج من مهد فقير، يرقد الآن بجوار “احميدو د السكان” أحد رؤساء الريسوني الأذكياء الذي قتله جنود تطوان النظامية أثناء معركة تازروت، وبجوار أكرم الشرفاء العلميين[43]. بعد موت القائد أحمد اسبوا اخريرو الحزومري في ساحة الشرف توقت الحملات الجهادية وكان موته حدثا هاما تناقلته جميع الصحف الاسبانية، فقد مات خليفة الخطابي. وفي العاشر من يوليوز من العام 1927م، أعلن المقيم العام سان خورخو بباب تازة عن نهاية المقاومة المسلحة والتي دامت ثمانية عشر عاما.

خاتمة:

شكلت مرحلة النصف الأول من القرن العشرين مرحلة مهمة من تاريخ الشمال المغربي، إذ تجند فيها المغاربة على قلب رجل واحد قصد الدفاع عن وحدة أراضيهم، انطلاقا من عدة مراكز للمقاومة كان الغالب عليها التطوع، وفيما بعد تنظمت هذه الحركات مع مجيء الثورة الريفية في إطار جيش منظم. وكان لهذه المرحلة الكثير من رجالاتها، قدر للبعض أن يسطر ويدون جزء من تاريخه، ولم يكتب للبعض الآخر، ونحن في هذا المقال حاولنا أن ننقل بعض من الأثر الذي تركه المقاوم الشهير، والصنديد العظيم، في انتظار أن تكون هناك محاولات أخرى من طرف الباحثين والخبراء، قصد رفع الإهمال الذي لحق بتاريخ المنطقة وأعلامها.

المصادر والمراجع:

أوغيست مولييراس، المغرب المجهول (اكتشاف اجبالة)، ترجمة: عز الدين الخطابي، منشورات تفرازناء الريف، (ج/2 – ط/2013).
التهامي الوزاني حسن، مذكرات حياة وجهاد، التاريخ السياسي للحركة الوطنية التحريرية المغربية، حرب الريف، منشورات مؤسسة حسن الوزاني.
التمسماني خلوق عبد العزيز، أسماء مغمورة لقادة الجهاد في المغرب القائد أحمد اخريرو الحزمري (1898-1926)، مجلة دار النيابة، العدد التاسع.
الريحاني أمين، المغرب الأقصى رحلة في منطقة الحماية الإسبانية، مصر، منشورات دار المعارف بمصر، (ج/1).
الريسوني علي، أبطال صنعوا التاريخ، تطوان، منشورات المطبعة المهدية، (ط/1975م)، (ج/1).
العلوي مصطفى، الحرب المغربية الفرنسية الاسبانية، 1906-1936، ج1، ط1، 1994م.
الورديغي عبد الرحيم، نهاية حرب الريف 1925-1926م، الرباط، 1997م.
غريسا فيغيراس توماس (Tomás García Figueras)، أحد أبطال جبالة، أحمد بن محمد الخزماري، أ. الجريرو، في ندوة المشاركين، 1951-1952.
مذكرة التهامي الوزاني، المقاومة المسلحة والحركة الوطنية في الشمال، تحقيق بن عزوز حكيم محمد، الرباط 1980م.
مقال بمدونة تاريخ وتاريخ، بقلم صاحب المدونة: فروج صهيب، يونيو 2010.
[1] أوغيست مولييراس، المغرب المجهول (اكتشاف اجبالة)، ترجمة: عز الدين الخطابي، منشورات تفرازناء الريف، (ج/ط/2013)، (ج/2). (ص/277).
[2] نفسه.
[3] نفسه (ص/249).
[4] نفسه (ص/258).
[5] نفسه.
[6] نفسه (ص/277).
[7] نفسه.
[8] نفسه.
[9] نفسه (ص/249)
[10] نفسه (ص/272)
[11] نفسه (ص/249)
[12] نفسه (ص/272)
[13] نفسه (ص/228)
[14] وردت ترجمته في: مذكرة التهامي الوزاني، المقاومة المسلحة والحركة الوطنية في الشمال، تحقيق محمد بن عزوز حكيم، الرباط 1980، ص232- عبد العزيز خلوق التمسماني، أسماء مغمرورة لقادة الجهاد في المغرب القائد احمد اخريرو الحزمري (1898-1926)، مجلة دار النيابة، العدد التاسع- عبد الرحيم الورديغي، نهاية حرب الريف 1925-1926م، الرباط 1997م، ص39- مصطفى العلوي، الحرب المغربية الفرنسية الاسبانية، 1906-1936، ج1، ط1، 1994م، ص 376-  توماس غريسا فيغيراس (Tomás García Figueras)، أحد أبطال جبالة، أحمد بن محمد الخزماري، أ.الجريرو، في ندوة المشاركين، 1951-1952، ص. 75-118.- مقال منقول من مدونة تاريخ وتاريخ، بقلم صاحب المدونة صهيب فروج، يونيو2010.
[15] التهامي الوزاني حسن، مذكرات حياة وجهاد، 2/281.
[16] نفسه، 2/282-283.
[17] سيدي احميدوا السكان، من كبار المجاهدين في إقليم اجبالة. تزعم الجهاد ضد القوى الاستعمارية بمعية الزعيم الريسوني، وبقي معه في رباطه ضد المستعمر إلى أن استشهد رحمه في معركة تازروت الشهيرة، وهو يجاهد بشجاعة ضد الفرق التي كانت في طريقها لاتلال مقر الريسوني بتزروت، وذلك سنة 1922م. وردت ترجمته في كتاب: التهامي الوزاني حسن، مذكرات حياة وجهاد، 2/283.
[18] نفسه.
[19] نفسه، 2/284-285.
[20] حي يقع في الشمال الغربي من مدينة تطوان، كان في تلك الفترة عبرة عن أجنان –حدائق وأغراس- لكبار العائلات التطوانية.
[21] التهامي الوزاني حسن، مذكرات حياة وجهاد، 2/285.
[22] نفسه، 2/285.
[23] نفسه، 2/285-286.
[24] نفسه، 2/288-287.
[25] نفسه، 2/289-288.
[26] نفسه، 2/289.
[27] نفسه، 2/285-2308-309-310.
[28] نفسه، 2/285-2308-309-310.
[29] نفسه، 2/-310- 311-312.
[30] نفسه، 312.
[31] نفسه، 2/312-313.
[32] الريحاني أمين، المغرب الأقصى رحلة في منطقة الحماية الإسبانية، (ج/1)، (ص/393)
[33] نفسه.
[34] نفسه.
[35] الريسوني علي، أبطال صنعوا التاريخ، مرجع سابق، (ط/1975م)، (ج/1)، (ص/220).
[36]  الريحاني أمين، المغرب الأقصى رحلة في منطقة الحماية الإسبانية، (ج/1)، (ص/394).
[37] نفسه، (ج/1)، (ص/395).
[38] الريسوني علي، أبطال صنعوا التاريخ، مرجع سابق، (ط/1975م)، (ج/1)، (ص/224).
[39] التهامي الوزاني حسن، مذكرات حياة وجهاد، 2/318.
[40] نفسه، 2/315.
[41] نفسه، 2/317-318.
[42] العلوي مصطفى، الحرب المغربية الفرنسية الاسبانية، 1906-1936، ج1، ط1، 1994م، ص 377.
[43] التهامي الوزاني حسن، مذكرات حياة وجهاد، 2/318.
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -