المواجهة بين المرابطين والموحدين
أ.د. راغب السرجاني
حمل محمد بن تومرت على عاتقه وعاتق جماعته -الموحدين- أمر مقاتلة المرابطين وسفك دمهم.
يقول ابن خلدون ملخصًا معارك المرابطين والموحدين: «ولما تمَّ له (ابن تومرت) خمسون من أصحابه سمَّاهم ايت الخمسين، وزحف إليهم عامل السوس أبو بكر بن محمد اللمتوني بمكانهم من هرغة، فاستجاشوا بإخوانهم من هنتاتة وتينملل، فاجتمعوا إليه، وأوقعوا بعسكر لمتونة، فكانت هزمة الفتح، وكان الإمام (أي: ابن تومرت) يَعِدُهم بذلك، فاستبصروا في أمره (أي تأكدوا من صدق ابن تومرت)، وتسابق كافتهم إلى الدخول في دعوته، وتردَّدت عساكر لمتونة إليهم مرَّة بعد أخرى ففضُّوهم... وكانوا يُسَمّون لمتونة الحشم، فاعتزم على غزوهم، وجمع كافَّة أهل دعوته من المصامدة، وزحف إليهم فلقوه بكيك، وهزمهم الموحدون واتبعوهم إلى أغمات، فلقيهم هنالك زحوف لمتونة مع بكر بن علي بن يوسف، وإبراهيم بن تاعباشت، فهزمهم الموحدون...»[1].
لقد استطاع ابن تومرت أن يتحصن في تينملل وأن يُخرج منها الجيوش التي تفتك بدولة المرابطين، ولقد استطاع بطبيعة الحال أن يُوَسِّع الأرض التي حوله والتي ينطلق منها، ولقد التقوا مع المرابطين في مواقع عديدة؛ كان منها تسع مواقع ضخمة، انتهت سبع منها بانتصارهم على المرابطين، وهُزموا في اثنتين.
وأكبر هزائمهم كانت حين استفحل خطرهم فجهز لهم علي بن يوسف بن تاشفين جيشًا كبيرًا، ثم خرج من الموحدين جيش كبير على قيادته عبد المؤمن بن علي، يروي عبد الواحد المراكشي كيف سارت المعركة فيقول: «ولما كانت سنة 517هـ جهز جيشًا عظيمًا من المصامدة، جُلُّهُم من أهل تينملل مع مَنِ انضاف إليهم من أهل سوس، وقال لهم: اقصدوا هؤلاء المارقين المبدِّلِينَ، الذين تسمَّوْا بالمرابطين، فادعوهم إلى إماتة المنكر وإحياء المعروف، وإزالة البدع، والإقرار بالإمام المهدي المعصوم، فإن أجابوكم فهم إخوانكم، لكم ما لهم وعليهم ما عليكم، وإن لم يفعلوا فقاتلوهم؛ فقد أباحت لكم السُّنَّة قتالهم. وأمَّر على الجيش عبد المؤمن بن علي وقال: أنتم المؤمنون، وهذا أميركم. فاستحقَّ عبد المؤمن من يومئذ اسم إمرة المؤمنين.
وخرجوا قاصدين مدينة مراكش، فلقيهم المرابطون قريبًا منها بموضع يدعى البحيرة، بجيش ضخم من سراة لمتونة، أميرهم الزبير بن علي بن يوسف بن تاشفين، فلمَّا تراءى الجمعان، أرسل إليهم المصامدة (من الموحدين) يدعونهم إلى ما أمرهم به ابن تومرت، فردُّوا عليهم أسوأ ردٍّ، وكتب عبد المؤمن إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بما عهد إليه محمد بن تومرت، فردَّ عليه أمير المسلمين يُحَذِّره عاقبة مفارقة الجماعة، ويُذَكِّرُه الله في سفك الدماء وإثارة الفتنة، فلم يردع ذلك عبد المؤمن؛ بل زاده طمعًا في المرابطين، وَحَقَّق عنده ضعفهم، فالتقت الفئتان، فانهزم المصامدة وقُتِلَ منهم خلق كثير، ونجا عبد المؤمن في نفر من أصحابه، فلمَّا جاء الخبر لابن تومرت، قال: أليس قد نجا عبد المؤمن؟ قالوا: نعم. قال: لم يُفقد أحد»[2].
وقفة مع تاريخ ابن تومرت
الحقيقة أن سيرة هذا الرجل فيها خلط كثير جدًّا، وتفاصيل كثيرة متشابكة في معظم الأحيان، وهي على تشابكها تتنافر وتتجاذب، فلا يدري المرء أي الأحداث أصدق، أو أيها أسبق، وبخاصة أن القدماء الذين كتبوا عن هذا الرجل لم يُؤَرِّخوا بدقَّة له أو للأحداث في عهده، اللهم إلا في القليل جدًّا، وهذا أمر يُعذرون فيه؛ إذ إن الظروف التي أحاطت بالرجل، أو التي أحاط نفسه بها -عن قصد أو غيرِه- تَحُولُ دون الدقَّة في الإخبار عنه؛ فلقد كان على غرابته ووحدته وصمته، دائم الترحال، ولم يستقرّ إلا في منطقة جبلية وعرة وحصينة؛ بل منهم مَن يقول: إنه استقر حينًا في منطقة وعرة، ثم ارتحل عنها بعد قليل (ثلاث سنوات تقريبًا) لمنطقة أخرى كانت أكثر حصانة منها ووعورة، وأشدَّ قسوة على أهلها ومَنْ راموهم بسوء، وهذا هو الأرجح، ولقد اعتمد على ساكني هذه المناطق في دعوته، ولنا أن نتوقَّع حال مَنْ يسكن هذه المناطق وعقلياتهم، بل يكفينا أن نتذكَّر أنهم ساروا خلفه رغم ادعائه الهدى والعصمة، ورغم ما فعله بهم يوم التمييز، ثم إنه قتل في يوم التمييز كلَّ مَنْ كان يخافه على نفسه ودعوته وأتباعه من أهل الفهم بين هؤلاء القوم، وقتلهم بأيدي أهليهم، بل إن مِن المصادر مَن يذكر أن هؤلاء الذين قُتلوا لم يحاولوا الهرب، وانتظروا حتى قتلهم أهلوهم، وإن كان ثمة مصادر أخرى ذكرت ما يختلف عن هذا؛ فمنهم مَن قال: إنه متى ذُكر أن فلانًا من أهل النار يُكَتَّف ثم يقتل. ومنهم من ذكر أنه كان يُلْقَى من أعلى الجبل في ساعتها، ومنهم.. ومنهم.. المهم أن أهل الفهم مِنْ هؤلاء لم يكونوا علماء، ولكنهم كانوا قومًا قد لا يصدقون كذبه وادعاءه، وينشرون ذلك بفطرتهم، فيُثَبِّطون به العزائم من حوله أو ما شابه؛ لهذا فإن المرء لا يَعْجَبُ إذا وجد أن كتاب (أخبار المهدي ابن تومرت) لأبي بكر بن علي الصنهاجي الشهير بالبيذق -وقد كان من أتباع ابن تومرت المقربين، وسابع مَنْ بايعوه في تينملل- لم يكن يذكر تواريخ كثير من الأحداث، بل ولا حتى عام حدوثها، حتى معارك ابن تومرت نفسها لم يكن الرجل يذكر تواريخها ولا سنة وقوعها، اللهم إلا ما ذكره على سبيل الإجمال في نهاية كتابه عن أهم ما حدث من سنة 518هـ إلى سنة 527هـ، فهذا رجل كان من كبار أتباع ابن تومرت، ولا يهتم أن يسوق الحدث ومعه تاريخ وقوعه؛ لذلك فإن المؤرخين معذورون في وقوع هذا الخلط.
معركة البحيرة
الصراع بين المرابطين والموحدين
كانت معركة البحيرةأو موقعة البستان سنة (524هـ=1130م)، انتصر فيها المرابطون على الموحدين، وقُتِلَ فيها من الموحدين أربعون ألفًا، وهذه المعركة -البستان أو البحيرة- هي التي سُبقت بحادث التمييز؛ حيث قام ابن تومرت بقتل كلِّ مَنْ يشُكُّ في ولائه له، بل جعل أهلَهم وأقرباءهم هم الذين يقتلونهم، كما سبق الإشارة إلى هذا الأمر.
قال ابن الأثير: «فجهَّز المهدي -ابن تومرت- جيشًا كثيفًا يبلغون أربعين ألفًا، أكثرهم رجَّالة، وجعل عليهم الونشريشي، وسَيَّر معهم عبد المؤمن، فنزلوا وساروا إلى مراكش فحصروها، وضيَّقوا عليها، وبها أمير المسلمين علي بن يوسف، فبقي الحصار عليها عشرين يومًا، فأرسل أمير المسلمين إلى متولِّي سِجِلْمَاسة يأمره أن يحضر ومعه الجيوش، فجمع جيشًا كثيرًا وسار، فلما قارب عسكر المهدي خرج أهل مَرَّاكُش من غير الجهة التي أقبل منها، فاقتتلوا واشتدَّ القتال، وكثر القتل في أصحاب المهدي، فقُتِلَ الونشريشي أميرهم، فاجتمعوا إلى عبد المؤمن وجعلوه أميرًا عليهم. ولم يزل القتال بينهم عامَّة النهار، وصَلَّى عبد المؤمن صلاة الخوف؛ الظهر والعصر، والحربُ قائمة، ولم تُصَلَّ بالمغرب قبل ذلك، فلما رأى المصامدة كثرة المرابطين وقوَّتهم، أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير هناك -والبستان يُسَمَّى عندهم البحيرة؛ فلهذا قيل: وقعة البحيرة، وعام البحيرة- وصاروا يُقاتلون من جهة واحدة إلى أن أدركهم الليل، وقد قُتِلَ من المصامدة أكثرهم، وحين قُتل الونشريشي دفنه عبد المؤمن، فطلبه المصامدة، فلم يَرَوْه في القتلى، فقالوا: رفعته الملائكة. ولما جنَّهم الليل سار عبد المؤمن ومَنْ سلم من القتلى إلى الجبل»[3].
لم تَفُتُّ هذه الهزيمة في عضد ابن تومرت، ولم يُصبه اليأس، وإن كان أصحابه قد بدءوا يَشُكُّون في مهديَّته المزعومة؛ فلجأ نتيجة لذلك إلى الحيلة والكذب؛ ليبعث الأمل من جديد في نفوس أصحابه، ويُوهمهم بأنهم على الحقِّ، وأن هؤلاء الملثَّمِينَ على الباطل، ولا بُدَّ أن يُهزموا.
يقول المراكشي في المعجب: «ولما رجع القوم إلى ابن تومرت، جعل يُهَوِّن عليهم أمر الهزيمة، ويُقَرِّر عندهم أن قتلاهم شهداء؛ لأنهم ذابُّون عن دين الله، مُظهرون للسُّنَّة؛ فزادهم ذلك بصيرةً في أمرهم، وحرصًا على لقاء عدوِّهم، ومن حينئذٍ جعل المصامدة يشنُّون الغارات على نواحي مراكش، ويقطعون عنها موادَّ المعايش وموصول المرافق، ويقتلون ويَسْبُون، ولا يُبْقُون على أحد ممن قَدروا عليه؛ وكثر الداخلون في طاعتهم والمُنْحَاشون إليهم، وابن تومرت في ذلك كله يُكثر التزهُّد والتقلُّل، ويُظهر التشبُّه بالصالحين، والتشدُّد في إقامة الحدود؛ جاريًا في ذلك على السُّنَّة الأُولى»[4].
لم يلبث ابن تومرت أن تُوُفِّيَ بعد معركة البحيرة هذه، تاركًا أصحابه بعد أن أمَّر عليهم عبد المؤمن بن علي، ولما مات كَفَّنه عبد المؤمن بن علي وصَلَّى عليه، ودفنه بمسجده[5].
وهكذا انتهت حياة ابن تومرت ومصير دعوته مجهول؛ بسبب هذه الهزيمة الشديدة التي نزلت بأتباعه في موقعة البحيرة، ولكنه قد نجح مع ذلك في ترسيخ دعوته في قلوبهم، حتى صَدَّقُوه وآمنوا بمهديَّتِه، وأطاعوه ولو في قتل أبنائهم؛ كما حصل في حادثة التمييز التي تقشعر لها الأبدان؛ حيث قتلت كل قبيلة أبناءها دون أن يُصِيبها التردُّد أو الحيرة.
البيعة لعبد المؤمن بن علي
ومن عجيب ما ينقل المراكشي في (المعجب) أن ابن تومرت قبل موته بأيام يسيرة استدعى هؤلاء المسمَّيْنَ بالجماعة، وأهل خمسين، وهم من قبائل متفرِّقة، لا يجمعهم إلا اسم المصامدة، فلمَّا حضروا بين يديه قام -وكان متكئًا- فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على محمد نبيه r، ثم أنشأ يترضَّى عن الخلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم- ويذكر ما كانوا عليه من الثبات في دينهم، والعزيمة في أمرهم، وأن أحدهم كانت لا تأخذه في الله لومة لائم، وذَكَر مِن حَدِّ عمر بن الخطاب -t- ابنَه في الخمر، وتصميمه على الحقِّ في أشباهٍ لهذه الفصول، ثم قال: فانقرضت هذه العصابة - نضَّر الله وجوهها، وشكر لها سعيها، وجزاها خيرًا عن أُمَّةِ نَبِيِّهَا- وخبطت الناس فتنةٌ تركت الحليم حيران، والعالم متجاهلاً مُداهنًا، فلم ينتفع العلماء بعلمهم، بل قصدوا به الملوك، واجتلبوا به الدنيا، وأمالوا وجوه الناس إليهم... ثم إنَّ الله - سبحانه وله الحمد - مَنَّ عليكم أيتها الطائفة بتأييده، وخَصَّكم من بين أهل هذا العصر بحقيقة توحيده، وقيَّض لكم من أَلْفَاكُم ضُلاَّلاً لا تهتدون، وعُمْيًا لا تُبصرون؛ لا تعرفون معروفًا، ولا تُنكرون منكرًا، قد فَشَتْ فيكم البدع، واستهوتكم الأباطيل، وزَيَّنَ لكم الشيطان أضاليلَ وتُرَّهاتٍ أُنَزِّه لساني عن النطق بها، وأَرْبَأُ بلفظي عن ذِكْرِهَا، فهداكم الله به بعد الضلالة، وبَصَّركم بعد العمى، وجمعكم بعد الفُرقة، وأعزَّكم بعد الذِّلة، ورفع عنكم سلطان هؤلاء المارقين، وسيُورثكم أرضَهم وديارهم، ذلك بما كسبته أيديهم، وأضمرته قلوبهم، وما ربك بظلام للعبيد؛ فجدِّدوا لله -سبحانه- خالصَ نيَّاتكم، وأَروه من الشكر قولاً وفعلاً ما يُزَكِّي به سعيكم، ويتقَبَّلُ أعمالكم وينشر أمركم، واحذروا الفُرقة واختلاف الكلمة وشتاتَ الآراء، وكُونُوا يدًا واحدة على عدوِّكم؛ فإنكم إن فعلتم ذلك هابكم الناس، وأسرعوا إلى طاعتكم، وكثر أتباعكم، وأظهر الله الحقَّ على أيديكم، وإلاَّ تفعلوا شَمِلَكم الذلُّ، وعَمَّكم الصَّغَارُ، واحتقرتكم العامَّة، فتَخَطَّفَتْكم الخاصَّة، وعليكم في جميع أموركم بمزج الرأفة بالغلظة، واللين بالعنف، واعلموا مع هذا أنه لا يَصلح أمرُ آخرِ هذه الأُمَّة إلاَّ على الذي صلح عليه أمرُ أوَّلها، وقد اخترنا لكم رجلاً منكم، وجعلناه أميرًا عليكم، هذا بعد أن بَلَوناه في جميع أحواله، من ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه، واختبرنا سريرته وعلانيته، فرأيناهُ في ذلك كله ثَبْتًا في دينه، مُتَبَصِّرًا في أمره، وإني لأرجو ألاَّ يُخلف الظنَّ فيه، وهذا المشار إليه هو عبد المؤمن، فاسمعوا له وأطيعوا ما دام سامعًا مطيعًا لربه، فإن بدَّل أو نكص على عقبه، أو ارتاب في أَمْرِه ففي الموحِّدين -أعزَّهم الله- بركةٌ وخير كثير، والأَمْرُ أمرُ الله يُقَلِّده من شاء من عباده.
فبايع القوم عبد المؤمن، ودعا لهم ابن تومرت، ومسح وجوههم وصدورهم واحدًا واحدًا؛ فهذا سبب إمرة عبد المؤمن بن علي؛ ثم تُوُفِّيَ ابن تومرت بعد عهده هذا بيسير، واجتمع أمر المصامدة على عبد المؤمن[6].
[1] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/228.
[2] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص259.
[3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/200.
[4] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص260-262.
[5] انظر ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/229.
[6] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص262-264.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.