السلطان سليمان بن محمد ويسمى أيضا مولاي سليمان و المولى سليمان هو أبو الربيع سليمان بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن الشريف (ولد 20 محرم 1180هـ / 1760م - توفي 13 ربيع الأول 1238هـ / 28 نوفمبر 1822م) كان سلطاناً مغربياً من سلالة العلويين. وهو ابن السلطان محمد الثالث. حكم بين 1797 - 1822م.
أعتمد على سياسة الانغلاق أو ما يسمى سياسة الإحتراز وهذه السياسة الإحترازية تعني الإنغلاق على العالم الخارجي فقد قطع جميع الصِلات بين المغرب وأوروبا وقلّل من المُعاهدات التي أبرمها والده حيث انتقلت من 11 إلى 3 معاهدات وأغلق جميع المراسي ومنع العلاقات التجارية الدبلوماسية... وذلك كله خوفا من انتشار وباء الطاعون بالإضافة إلى الخوف من أوروبا حيث عاصر عهد الثورة الفرنسية وعصر الحروب التوسعية للقائد العسكري الفرنسي نابليون، وأنَّ الفترة التي قضاها سلطانًا على المغرب عرفت هزات اجتماعية كانت نتيجة الإصلاحات الدينية التي أدخلها المولى سليمان على مذهب المغاربة.
وكان للسلطان المولى سليمان اطلاع واسع على الفقه الإسلامي ومصنفاته ودواوينه، وله فيه مساهمات مهمة، تأليفا، ودراسة، وإفتاء، ومناظرة.
السلطان سليمان بن محمد | |
---|---|
فترة الحكم 1792 - 1822 | |
معلومات شخصية | |
الميلاد | 20 محرم 1180هـ 1760م مراكش |
الوفاة | 13 ربيع الأول 1238هـ 28 نوفمبر 1822 مراكش |
مكان الدفن | ضريح مولاي علي الشريف بباب إيلان |
الأب | محمد الثالث |
إخوة وأخوات | اليزيد بن محمد، وهشام بن محمد |
عائلة | الأسرة العلوية |
مسيرته
هو ابن السلطان محمد الثالث من أم حرة كانت تسمى بـ«الحلافية» ويلقب أيضا بأبي الربيع، ووصفه بعض معاصريه من الكتاب والمؤرخين، بأنه كان جميل الصورة وأبيض البشرة ومتوسط القامة. كان السلطان مولاي محمد بن عبد الله يرسل أولاده الأمراء إلى المدرسة القرآنية بقرية أحمر بمنطقة آسفي. لما كان شاهده بها في بعض أسفاره التفقدية من نظامها المثالي آنذاك في دراسة القرآن وعلومه. فعني المولى سليمان بالقرآن وعلومه منذ نعومة أظفاره، فقد حفظ القرآن وجوده، وأتقن رسمه وضبطه على الشيخ المقرئ أبي محمد أجانا. وهو أول شيوخه - وكان يجله ويقدره فأصدر عند توليه الحكم ظهيرا شريفا بتوقيره واحترامه. ويقول المولى سليمان في أرجوزته:
«أول من علمني القرآنا والرسم عبد الوهاب أجانا»
وعين السلطان محمد الثالث الفقيه والقاضي حمدون بن الحاج أستاذا لابنه الأمير سليمان. يوصف سليمان بكونه كان ملتزما في أمور الدين والأقرب إلى قلب أبيه من باقي إخوته، وشديد التعلق بالمسائل الفقهية والعلمية لدرجة عكوفه على شؤون الشريعة بسجلماسة، وقد قيل في حقه من قبل مؤرخي المغرب إنه «لم يلتفت قط إلى شيء مما كان يتعاطاه إخوته الكبار والصغار من أمور اللهو كالصيد والسماع ومعاقرة الندمان وما يزري بالمروءة». عرف عن المولى سليمان زهده في أمور الدنيا وإكثاره الصوم، وابتعاده عن الإسراف، لدرجة أنه كان يمنع في تنقلاته وسفرياته أن يصاحبه مطبخ متنقل.
بداية حكمه
طالت سبع سنوات بعد وفاة السلطان محمد بن عبد الله عام 1204 هـ /1790م، تجاذب أثناءها حبل الملك ستة من أبناءه الأمراء، منهم اليزيد وهشام ومسلمة والحسين وسليمان، بالإضافة إلى التمرد في المدن والبوادي من أمراء الأسرة الملكية، أو شيوخ القبائل.
بويع المولى سليمان سلطانا على المغرب بمحضر أهل فاس وكبرائها من العلماء والقضاة والعبيد مع قبائل الودايا. واستمر حكمه في السنوات الثلاث الأولى في مدينة فاس، حتى عام 1795م، عندما دخل في حروب لفرض سلطته على باقي مناطق المغرب في مواجهة القبائل، وواصل التمركز والتوسع. وانهى الصراع على السلطة عند استلائه على مدينة مراكش عام 1211 هـ / 1797م. فعرف عن المولى سليمان أنه الوحيد من ملوك وسلاطين المغرب الذي لم يقبل البيعة إلا بشروط، حيث امتنع في البداية على قبولها، وكان من شروطه أنه لا يحارب ولا يدخل غمار قتال وإنما «هو يسدد أمر المسلمين إلى غير ذلك»، فقبل أهل فاس بشروطه، فكان أول شيء قام به السلطان هو إصدار طابع سلطاني كتب عليه: «وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب الله محمد أبو بكر عمر عثمان علي رضي الله عنهم سليمان بن محمد».
في السنوات الأولى حكم مولاي سليمان في مدينة فاس، أي حتى عام 1798. دخل في حروب أهلية للسيطرة على المملكة. واصل التمركز والتوسع للمملكة كما فعل أبوه. وأنهى القرصنة التي كانت موجودة على ساحل المغرب، وكانت جزءا من صراع المغرب الطويل مع إسبانيا والبرتغال؛ فأوقف السلطان سليمان كل التجارة بينه وبين دول أوروبا، ولكنه واصل العلاقة القوية مع الولايات المتحدة الأمريكية مثل أبيه.
كما أعاد المولى سليمان اليهود المطرودين من قبل أخيه اليزيد بن محمد إلى ملاحهم بفاس، فلقبه اليهود بالسلطان العادل. وأعطى أوامره بهدم مسجد بني في الملاح، باعتبار أنه بني عن غير وجه حق.
السياسة الخارجية
تميزت فترة حكم المولى سليمان بكونها كانت فترة انغلاق داخلي، في وقت كانت أوروبا ثورة فكرية كبرى. حيث منعت الدولة المغربية في عهده تصدير اغلب المواد الفلاحية والغذائية خاصة الحبوب والزيوت والصوف والمواشي، وفرضت رسوما جمركية مرتفعة على الواردات، وأغلقت الدولة المغربية عدة موانئ في وجه التجارة الخارجية وبالتالي تقلص عدد التجار الأوروبيين المقيمين بالمغرب. وكان سلطان المغرب آنذاك جد متحفظ في تعامله مع الغرب، ومنعته من ذلك روحه المحافظة وطبائعه الدينية المتأصلة، وهو ذاته المزاج الذي جر عليه مشاكل مع بايات الترك في الجزائر الذين كانوا ينظرون إليه بعين الريبة، خاصة بعد أن بايعه أهالي تلمسان وفضلوه على البقاء تحت سلطة الأتراك. وكان عرب تلمسان يدعون مع المولى سليمان في الصلاة بالمساجد، وتشبثوا به أميرا للمؤمنين لدرجة أنه نزح عدد ضخم منهم إلى المغرب تاركين تلمسان، وتدخل المولى سليمان من أجل الصلح بينهم وبين باشا الترك، فترجاهم السلطان أن يعودوا إلى ديارهم، فخاطبوه بقولهم: «نذهب إلى بلاد النصارى ولا نجاور الترك ونجمع علينا الجوع والقتل».
ومن اسباب السياسة الانغلاقية التخوف من سياسة فرنسا التوسعية، التي احتلت بلدان أوروبية مجاورة لها كالبرتغال وإسبانيا، وحملتها العسكرية على مصر، وحربها البحرية والاقتصادية ضد بريطانيا. والأخطر من ذلك وضع فرنسا قوات عسكرية في الجزيرة الخضراء استعدادا لغزو المغرب، وعبر نابليون بونابرت عن رغبته في احتلال المغرب. كما تدخلت فرنسا في الشؤون الداخلية للمغرب من خلال إرسال جواسيس، أمثال علي باي العباسي، لإثارة الفوضى والإطلاع على القدرات العسكرية للبلاد.
ومن بين الاتفاقيات التي أجراها مع إسبانيا اتفاقية 1 مارس 1799م، وهي معاهدة صلح ومهادنة بين السلطان سليمان وملك إسبانيا كارلوس الرابع. وقد تفاوض باسم السلطان، الديبلوماسي ابن عثمان المكناسي، وعن ملك إسبانيا، السفير الباشدور خوان سمويل. وأبرمت المعاهدة بمكناس في رمضان 1213هـ. وقد نص الشرط 22 من المعاهدة على ما يلي:
«...إذا حرث لجنس الإصبنيول فيما وراء سوس ووادي نون، فمن جهة المحبة التي لملك إصبانية في سيدنا أيده الله ، يبحث كل البحث ويستعمل عزمه في استنقاذ رعية المحرثين بما أمكن إلى أن يرجعوا لبلدهم.»
خلال الحروب الطرابلسية وعلى اثر الحصار البحري الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية على ليبيا في عهد يوسف باشا القره مانلي، تدخل المغرب لصالح ليبيا فقام مولاي سليمان بطرد القنصل الأمريكي من مدينة تطوان، وأعلن الحرب على الولايات المتحدة سنة 1802م، ودمر الأسطول البحري الأمريكي الذي كان متجها نحوها. بعدها كلف المغرب انجلترا بإجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية لعقد الصلح معها وتبادل الأسرى. وأقام السلطان المولى سليمان علاقة مصاهرة مع أسرة ليبية وكافأ حاكم ليبيا الذي توسط في هذه العلاقة.
الغى المولى سليمان الجهاد البحري وأدمج عناصره في الجيش المغربي وفرق البعض الآخر على البلدان المجاورة (خاصة الجزائر وليبيا)، بعد أن طلبت دول أوروبية من المغرب التوقف عن القرصنة. وجردت الدولة المغربية السكان من الأسلحة ومنعتهم من شرائها، كما قامت بإغلاق مستودع الأسلحة. رغم سياسة الاحتراز وتراجع حجم المبادلات الخارجية ظلت بريطانيا الشريك التجاري الأول للمغرب، وفتحت بعض الموانئ المغربية كميناء الصويرة في وجه التجارة الخارجية، وتم تصدير بعض المنتجات الفلاحية إلى أوروبا. وتميز القضاء المغربي في عهد المولى سليمان بنوع من المرونة في حالة نزاع بين مغربي وأجنبي.
وفي سنة 1213 هـ /1798م عمل والي الجزائر عصمان تركي، ابن الباي محمد عثمان الكبير، على السيطرة على مدينة وجدة بعد أن كان والده تراجع عنها بطلب من السلطان المولى سليمان، لكن بعد وفاة والده حاول أن يقوم بما تراجع عنه أبوه، فبعث له المولى سليمان برسالة تذكره بتراجع أبيه، والهدنة المبرمة معه، وبأن الأمر يمكن أن يتطور إلى ما لا تحمد عقباه، وبخاصة أن أباه تراجع عن وجدة إلا بعد أن تيقن أن الجيش الذي بعثه المولى سليمان لا قدرة له على محاربته، وكان ذلك سنة 1211 هـ، فتراجع عصمان وترك وجدة.
الدعوة الوهابية
بعد ظهور الدعوة الوهابية ارتأى السعود بن عبد العزيز أن يوجه رسائل إلى ملوك الدول الإسلامية يبين لهم أهداف دعوته. وبلغت الرسالة إلى السلطان المولى سليمان سنة 1226 هـ فوجدها لا تتنافى مع الأصول الإسلامية ومع ذلك فقد جمع العلماء يستشيرهم ويستفتيهم، فأرسل بعثة مغربية تضم عددا من الفقهاء وعلماء الدين مصحوبين بإبنه إبراهيم ليؤدوا فريضة الحج ويطلعوا عن كثب على مضمون الدعوة وأهدافها. وضم الوفد القاضي أبو إسحاق إبراهيم الزداغي والفقيه أبو الفضل العباسي بن كيران والفقيه المولى الأمين بن جعفر الحسيني الرتبي والفقيه محمد العربي الساحلي. وجرت مناظرة بين فقهاء الطرفين. ولما رجع الوفد إلى المغرب بين موقف الوهابيين، فسمع المولى سليمان كل ذلك ووعاه فرآه منسجما في جوهره مع التعاليم الدينية، فكتب رسالته الشهيرة التي أنكر فيها سلوك الغلو في احترام الأموات. وهذه الرسالة تظهر أن موقف المولى سليمان من مفهوم البدعة لم يكن بعيدا عن موقف الوهابيين ولكن موقفه من مخالفتها لم يكن شبيها بموقفهم، فهم اختاروا العنف وآثروا منع العوام من زيارة القبور سدا للذريعة وهو اختار طريق التوعية والإرشاد والنصيحة، وخطته هذه صالحة بالنسبة للوضع التي كان عليه المغرب آنذاك. فالمغرب غزته الاتجاهات الصوفية حقبة من الزمن فلعبت دورا كبيرا في تهذيب النفوس والإعانة على الجهاد ثم تضاءلت هذه الحقيقة فدخل إعياء التصوف في الميدان وانتقلت الحركة الصوفية إلى أيدي بعض العوام فتلاعبوا بجوهرها وكدروا صفاءها ودنسوا روحها. ومن ما جاء في رسالته:
سليمان بن محمد " من الغلو البعيد ابتهالات أهل مراكش بهذه الكلمة سبعة رجال فهل كان لسبعة رجال يطوفون عليهم، فعلينا أن نقتدي سبعة رجال ولا نتخذهم آلهة لئلا يؤول الحال منهم إلى ما آل إليه في يغوث ويعوق ونسرا". سليمان بن محمد
أحدث هذا فتنة دينية بالمغرب، جعلت بعض الزوايا والطرق الصوفية تتخذ منه مسافة وصلت إلى درجة العداء، لما أقدم، بصفته سلطانا وأميرا للمؤمنين، على إصدار ظهائر سلطانية تجرم وتمنع مواسم الصالحين والأضرحة، فكانت قبائل الأطلس في طلائع المحتجين على التوجهات الجديدة للسلطان. وكان لرسالة السلطان صدى أيضا عند الشعراء، فهذا الشاعر أحمد الحبيب الرشدي يمدحها ويمدح مولاي سليمان بقصيدة طويلة أوردها أبو القاسم الزياني في الترجمانة الكبرى منها:
سليمان بن محمد يا حسنها من خطبة أحيا بها
ما مات من سنن الشيوخ المجد
نصح الورى نصحا بليغا شرحه
ينسى فحــول العلم كــل مجلــد
هي نقطة من بحره بركاتها
عمت وجــاءت بالعلــوم الســرد
فيها دعا الله قوما أعلنوا
بالشطح والتصفيق والفعل الردي
جعلوا مواسم ما لها في سنة
أصل بأضـرحة الفحــول الزهــد
سليمان بن محمد
إلى أن يقول:
سليمان بن محمد حتى رماهم ربنا بنواقب
من عدل سيدنا الهــمام الأجــود
فأقامهم والله راض عنه في
سجن المهــانة بالمقــام الأبعــــد
يدعو العباد لربهم ويدلهم
أبدا على نهج الصواب الأرشــد
وكذاك شأنه ليس تحدث بدعة
إلا محــاهــا باللســــان وباليــــد
سليمان بن محمد
في المقابل تراجعت التجارة الداخلية في عهده بسبب إلغاء المواسم التي كانت تشكل أسواقا هامة، وقيل عنه زمن ولايته على تافيلالت أنه كسر الحرمات على الزوايا وضيق عليهم.
تمرد القبائل
كان شمال المغرب تحت وطأة وباء الطاعون وجفاف حاد منذ 1816م لثاني مرة بعد وباء 1800 المدمر، وثاني موجة من الجراد اجتاحت البلاد في السنة نفسها، فصار شبح المجاعة يهدد البلاد. واشتدت الأزمة في السنة الموالية عندما سمح المولى سليمان بتصدير القمح إلى فرنسا، متسببا في ارتفاع الأسعار. وسط هذه الأزمات أعلن المولى سليمان أواخر شهر مايو 1819م عزمه غزو قبائل اتحادية أيت أومالو المتمردة والمكونة من زيان، بني مگيلد، وآيت يوسي، بالأطلس المتوسط، التي التحمت حول قائدها القوي أبي بكر أمهاوش، وألحقت بجيوش المخزن هزيمة نكراء في معركة آزرو قبل ثمان سنوات. واستعان السلطان لحملته بعرب الحوز والبخاريين وجيش الأوداية وشراقة وعرب الغرب وبرابرته وعسكر الثغور.
فجمع حوالي ستين ألفا من الجند، فأغار على مزارع آيت أومالو في آدخسان، وأتى عليها بالكامل. حاول الزعماء الأمازيغيون استمالة السلطان إلى الصلح، لكنه رفض رفضا قاطعا. بعد يوم من القتال اشتكت القبائل العربية للسلطان حجم خسائرها الكبير بينما لم يهلك الكثير في صفوف حلفاء السلطان من الأمازيغ، تحت قيادة محمد بن الغازي الزموري، وحسب الناصري فإن الزموري عقد اتفاق مع أمهاوش:
«ذلك أن كبير زمور (حلفاء السلطان) الحاج محمد بن الغازي دس إلى زيان بأنما نحن وأنتم واحد فإذا كان اللقاء فلا ترمونا ولا نرميكم إلا بالبارود وحده.»
كتم المولى سليمان الأمر في نفسه، وفي اليوم الموالي قَدَّمَ السلطان جيش البخاري والأوداية وجيوش القبائل العربية، وطلب من جيوش القبائل الأمازيغية عدم المشاركة في القتال، مدعيا اختبار العرب. فأذعن الأمازيغ للأمر، ولزموا مواقعهم. لكن ما ان شتدت الحرب، حتى أغاروا على جيوش المخزن من الخلف، فوقع السلطان بين كماشة قبائل من آيت أومالو من الأمام وقبائل زمور من الخلف.
وقع السلطان في أسر رجل من بني مگيلد وأخذه إلى خيمته، ف«أقبلت نساء الحي من كل جهة يفرحن ويضربن بالدفوف، ثم جعلن يتمسحن بأطرافه تبركا به وينظرن إليه إعجابا به حتى أضجرنه. ولما جاء رجال الحي أعظموا حلوله بين أظهرهم وأجلوه». تصرف رجال آيت أومالو وكأنهم ليسوا المنتصرين بل جاؤوا إلى المولى سليمان معتذرين مستشفعين. ظل السلطان في أسره مدة ثلاثة أيام، حتى قادوه إلى مكان قريب من مكناس وأطلقوا سراحه. من بين أبنائه إبراهيم بن سليمان، الوحيد الآهل للإمارة نظرا لعلمه وحنكته، لكنه توفي بفاس عام 1234هـ بسبب اصابته في الحرب التي لم يتعافى منها.
بقي السلطان عدة أشهر في عزلة بقصره، اهتزت خلالها صورته وخرجت كثير من مقاليد الحكم من بين يديه. وقد علق القنصل الفرنسي في طنجة حينها: «إن جلالته يوجد في وضع غريب ومحرج تجاه رعاياه الذين بعد أن أسروه رافقوه إلى أبواب قصره بمكناس. إن التبجيل الذي يكنه هؤلاء لشخصه كشريف هو الشيء الوحيد الذي يضمن بقاءه كسلطان». ويروي الناصري في الاستقصا: «كانت هذه الوقعة الفادحة سبب سقوط هيبة السلطان المولى سليمان من قلوب الرعية، فلم يمتثل له بعدها أمر في عصاتها حتى لقي لله تعالى».
تمرد فاس وتطوان
قبل خروج المولى سليمان من مدينتي فاس ومكناس عين بهما ابنيه علي والحسين، لكنهما فشلى في تسيير المدينتين. ومباشرة بعد رحيل السلطان لفاس، قامت عناصر جيش الأوداية من نهب ملاح اليهود بالمدينة لمدة ثلاثة أيام متتالية. وبعد فراغهم من الملاح الصغير قرروا التوجه إلى الملاح الكبير. ولأن تجار فاس كانوا يعهدون بسلعهم وأموالهم إلى اليهود، كان هذا الهجوم على أهل الذمة كافيا لتتحول المعركة إلى مواجهة مفتوحة بين الأوداية وأهل فاس. نظم أهل فاس أنفسهم وجعلوا على كل جهة قائدا لمواجهة بطش الأوداية، وظلوا متشبثين بالمولى سليمان سلطانا شرعيا للبلاد. فراسلوه طالبين منه العودة إلى الغرب، إلا أن رده المتأخر فهموا منه عجزه عن الحكم. فبدأت تظهر فتاوى لتعيين سلطان جديد فوقع اختيارهم على المولى إبراهيم بن اليزيد. تمرد سكان فاس القديم وبايعوا إبراهيم بن اليزيد، خصوصا بعد أن ظهر كتاب مزعوم منسوب للسلطان يعزل فيه نفسه ويأمرهم بالبحث عن أمير يسير شؤونهم، وعلى عكس فاس القديم تمسك أهل فاس الجديد ببيعة المولى سليمان، فحدث اقتتال وفتنة بين العدوتين توفي على اثرها المولى إبراهيم في 4 جمادى الآخرة 1236هـ وبايعوا أخوه مولاي سعيد. حاصر المولى سليمان مدينة فاس حتى اشتد وضاق عليها الخناق فدخلها السلطان وأعطى الأمان لإبن أخيه سعيد ثم أصلح الأمور بين جيش الأوداية وأهل فاس، وكان ذلك في رجب 1237هـ. ويروي الناصري أن السلطان في تلك الفترة «سئم الحياة ومل العيش وأراد أن يترك أمر الناس لابن أخيه المولى عبد الرحمان بن هشام ويختلى هو لعبادة ربه إلى أن يأتيه اليقين». فكتب خلال تلك الفترة وصيته التي جاء فيها: «الحمد لله، لما رأيت ما وقع من الإلحاد في الدين واستيلاء الفسقة والجهلة على أمر المسلمين...»، ثم أوصى بالحكم من بعده لابن أخيه عبد الرحمان لأنه: «لا يشرب الخمر ولا يزني ولا يكذب ولا يخون ولا يقدم على الدماء والأموال بلا موجب». وتوفي السلطان مولاي سليمان يوم الخميس 13 ربيع الأول 1238هـ.
الاهتمام بالثقافة
اقترح مولاي سليمان تأليف معجم قرآني ووضع مشروعه بنفسه، وكان أول معجم قرآني بالمغرب، وقد أسماه «التوضيح والبيان، في مقرأ نافع بن عبد الرحمان».
«وجاء في مقدمته: .. وقد أمرنا بوضعه من تجب طاعته وطلعت في أفق العلا سعادته، وهو إمامنا الذي أبيض بسببه وجه الزمان، الشريف العالم أبو الربيع سليمان، واقترح علينا أن نضعه على ترتيب حروف المعجم، ليكون بذلك سهل التناول على من أراد منه أخذ الحكم... على أنه لم يؤلف هكذا كتاب في القديم، حتى يغترف هذا من بحره العميم. .»
بعد انتقال الشيخ التجاني من الصحراء إلى فاس سنة 1213هـ، صار محيط السلطان يثنون على التجاني، فبدا يستدعي الشيخ لمجالسه، ويستعذب تقريراته. فأيقظت هذه العلاقة إنكار بعض المقربين من السلطان، فبدا التجاني يحدث أصحابه عن رغبته في الانتقال بأهله من المغرب إلى الشام. فعرض السلطان على الشيخ أن يسكن أحد قصوره، وهو المعروف بدار المرايا بفاس. بعد أن أنفق على بناء هذا البيت مالا كثيرا، فاستدعى مجلسه العلمي للمناظرة فيه، وذلك على إثر الانتهاء من البناء سنة 1212 هـ، وفي السنة الموالية أهدى البيت للشيخ التجاني ليقيم فيه، فأبى الشيخ ذلك إلا بالمقابل، فصار يتصدق كل شهر بمقدار ثمن الكراء. كما أراد السلطان أن يُعِين الشيخ على بناء الزاوية فلم يقبل.
كما اهتم سليمان بالعمران، حيث قام ببناء «قصر القبيبات» أو «دار البحر» بمنطقة أبي رقراق، وأصبح منذ ذاك لهذه المنطقة مكانة ديبلوماسية. كما عزز أبراج الدفاع عن «رباط الفتح» ببطاريات تحمي الساحل من جهة «دار البحر». ثم جدد المولى سليمان باب السور (بناه المهاجرون الأندلسيون بين سيدي مخلوف المطل على أبي رقراق إلى باب الأحد، زمن فيليب الثالث) لما بلغه أن نابليون جاء إلى إسبانيا، فأصدر أوامره إلى ولاة المغرب وعماله يحثهم على تجديد أبواب البلاد ودروبها.
كما واكب السلطان سليمان حركة ازدهار الفن الموسيقي فصنف رسالتين اثنتين في السماع. وبرز الشيخ الجابري في عهد المولى سليمان، وهو عازف مسمع كان يطرب بحضور شيخ الجماعة بجامع القرويين العلامة حمدون بلحاج والعلامة المحدث الصوفي أحمد التيجاني. واتخذ المولى سليمان في شخص الأديب أحمد الرفاعي القسطالي، الذي تميز في فن الخطاطة، مربيا لأولاده بالرباط وعينه واليا على فاس، ونال الحظوة نفسها من خلفه المولى عبد الرحمن. ولعل اضطلاع كل من السلطانين المولى سليمان والمولى عبد الرحمن بتركيز الفن الموسيقي برباط الفتح قد فسح المجال لظهور علماء برعوا في هذا الفن، وفي طليعتهم العلامة الشاعر قاضي العدوتين أحمد بن أحمد الحكمي الذي تفرد في وقته بالفنون الأدبية كالموسيقى؛ علاوة على ضلاعته في الأصول والفقه.
وألف الأمير عبد الله ابن السلطان أحمد بن إسماعيل كتاب نزهة النفوس فيما يصلح للعريس والعروس. ألفه لابن عمه السلطان مولاي سليمان، وهو كتاب يحتوي على وصفات طبية تصلح للمقبلين على الحياة الزوجية وتأسيس الأسرة.
مؤلفاته
كما خلف المولى سليمان آثارا قرآنية منها:
- رسالة انتقد فيها مواضع من وقف الامام الهبطي، وربما كان أميل إلى الوقف السني.
- رسلة في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج: 52]- تعرض فيها لمسائل الغرانيق، وصحح أوهاما وقع فيها كثير من المفسرين.
- بحث في آية (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72].
- بحث آخر في آية (وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) [الزخرف: 60]، تعرض فيها لمعنى (من) وذكر وجها ربما كان أنسب لمعنى الآية أغفله المفسرون، ولم يشر إليه أحد من النحويين.
- رسلة في آية (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ) [النساء: 157-158]- أطال النفس فيها، وحرر القول في مباحثها.
- أرجوزة ضمنها مشايخه ورواياتهم وأسانيدهم..
وله رسالتين في الموسيقى:
«إمتاع الأسماع بتحرير ما التبس من حكم السماع»،
«تقييد في حكم الغناء»،
وفاته
يروي الناصري في الاستقصا أن السلطان في السنوات الأخيرة من عمره «سئم الحياة ومل العيش وأراد أن يترك أمر الناس لابن أخيه المولى عبد الرحمان بن هشام ويختلى هو لعبادة ربه إلى أن يأتيه اليقين». فكتب خلال تلك الفترة وصيته التي جاء فيها: «الحمد لله، لما رأيت ما وقع من الإلحاد في الدين واستيلاء الفسقة والجهلة على أمر المسلمين...»، ثم أوصى بالحكم من بعده لابن أخيه عبد الرحمان لأنه: «لا يشرب الخمر ولا يزني ولا يكذب ولا يخون ولا يقدم على الدماء والأموال بلا موجب». وتوفي السلطان مولاي سليمان يوم الخميس 13 ربيع الأول 1238 ه
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.