إبان تدهور أوضاع الدولة المرينية تعددت صور تعاظم نفوذ اليهود والنصارى، وتنفذ هؤلاء في الجيش وتسلق بعضهم المناصب حتى غدا قريبا من دوائر صناعة القرار، وكان بعضهم يضمر الشر للدولة المرينية ويسعى في خرابها. وفي عهد عبد الحق بن أبي سعيد خاصة كثرت المحن والفتن وضاق الخناق على الرعية. يقول الناصري: «في أيامه ضعف أمر بني مرين جدا وتداعى إلى الانحلال وكان التصرف للوزراء والحجاب». وعن مدة حكمه يشير الناصري إلى «أنه أطولهم مدة وأعظمهم محنة وشدة».
أبو فارس عبد العزيز ابن موسى الورياغلي
وقد استبد وزراؤه في حكمهم وجاروا، وهو ما عبر عنه الناصري في وصفه للوزير أبي زكريا بأنه نقض جل ما أبرمه الوزراء قبله وعامل الرعية بالعسف، غير أن جور الوزير هذا، حسب ما تذكر المصادر التاريخية، لم يثر حفيظة السلطان بالقدر الذي أثاره تعاظم نفوذه وخشيته من أن ينقلب عليه فبطش به وبمقربيه ونكل بهم، فتجاوز من أساء إلى من لم يسئ وأصاب بطشه الأبرياء والمذنبين على حد سواء، هاجسه في ذلك صيانة ملكه وليس بسط العدل وإرجاع الحق لأصحابه، فما كان من الرعية إلا أن نقمت عليه ظلمه وتناقل الناس في مجالسهم سوء فعاله فذموه. وقد نما خبر ذلك إلى السلطان فولى عليهم اليهوديين هارون وشاويل كما ذكر الناصري «تأديبا لهم وتشفيا منهم». وقد أساء اليهوديان المذكوران التصرف وأمعنا في إذلال أهل فاس. جاء في «الاستقصا»: «فشرع اليهوديان في أخذ أهل فاس بالضرب والمصادرة على الأموال، واعتز اليهود بالمدينة وتحكموا في الأشراف والفقهاء فمن دونهم». كل ذلك والناس ساخطون متضجرون، فلما بلغ الأمر بأحد أتباعهما حد ضرب امرأة بأحد الأزقة بفاس وجلدها بالسياط عظم على الناس فعله، وكان بالقرويين خطيب شجاع وإمام جريء وصلب في الحق لا يتطرق الخوف إلى قلبه, اسمه أبو فارس عبد العزيز بن موسى الورياغلي، فقصده الناس واشتكوا إليه ظلم المريني وتسلط ولاته. لا تذكر الروايات التاريخية عن الورياغلي الشيء الكثير، وقد تناثرت أخباره في عدد من المصادر. إذ قال عنه الونشريسي صاحب المعيار أنه «صاعقة الأرض». وكان يقصد أنه رجل صالح دعوته لا تخطئ أبدا. ووصفه الشيخ زروق ب«الغندور»، أي صاحب الإباء والنخوة بلهجة المغاربة. وقد وافته المنية عام 880 ه فدفن بباب الفتوح بحومة الكغادين.
الدولة المرينية
وإن كان الكثير من فصول سيرة الورياغلي قد خفي عن المؤرخين فإن موقفه من تسلط الوالِيَين اليهوديين كان كافيا ليخلد اسمه أبد الدهر. يذكر صاحب «الاستقصا» أن سكان فاس حين قصدوه قالوا له: «ألا ترى إلى ما نحن فيه من الذلة والصغار وتحكم اليهود في المسلمين والعبث بهم حتى بلغ حالهم إلى ما سمعت» فأثر كلامهم في نفسه، إذ لم يعد الأمر قاصرا على الرجال، بل تعداهم إلى النساء. ومعلوم أن بيئة المغرب يومها كانت بيئة محافظة، وقد بلغ من حرص الناس على نسائهم حينئذ أن منعوا صعود المؤذن إلى الصومعة ما لم يكن متزوجا. لقد كان هذا شأنهم مع المؤذن المسلم، فكيف يكون شأنهم مع غيره؟.
لم يتردد الورياغلي في بيان موقفه من النازلة المطروحة أمامه فأفتى في الحين بالفتك باليهود وخلع بيعة السلطان عبد الحق ومبايعة الشريف أبي عبد الله الحفيد فأجابوه. وقادهم الورياغلي بنفسه إلى حارة اليهود فصادر أموالهم وخضد شوكتهم. وقد بلغ الخبر إلى مسامع عبد الحق وكان خارج مدينة فاس، فجعل الجند يذمون صنيع اليهودي بالمسلمة، وما كان ذاك إلا مثيرا لحنقهم على مظالم كثيرة رأوها منه، فأحس عبد الحق بخطورة الموقف فاستشار هارون في الأمر فأشار عليه ألا يدخل فاس وأن ينحاز إلى مدينة مكناس. وما كاد هارون يتلفظ برأيه حتى تناوله أحد أتباع عبد الحق برمحه صارخا: «مازلنا في تحكم اليهود واتباع رأيهم والعمل بإشارتهم»، فقام الجند على عبد الحق وطلبوا منه أن يتقدم أمامهم إلى فاس، ثم سلموه إلى الشريف عبد الله الحفيد، فانتزع منه خاتم الملك وأركبه على بغل بالبردعة والناس ينظرون إليه. وفي صبيحة يوم الجمعة الموافق للسابع والعشرين من رمضان من عام ثمانمائة وستين للهجرة ضربت عنقه وانتهت بمقتله دولة بني مرين.
يوسف الحلوي
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.