أخر الاخبار

نشأة الحركة الوطنية في المغرب

بقلم: خاليد فؤاد طحطح.

        لابد من الإشارة إلى أن كتابة تاريخ الحركة الوطنية من الأمور الشديدة التعقيد لارتباط جزء كبير من الحاضر السياسي بهذه الفترة الزمنية،كما أن تعدد الاختلافات بين الباحثين تعود أحيانا كثيرة إلى حضور الذاتية والانتماء السياسي، كما أن الكتابات الاستعمارية تقدم أحيانا وجهات نظر مختلفة.

      وإذا كان من السهل الحديث عن نشأة الحركة الوطنية بالمغرب فإنه يصعب تحديد المفهوم الحقيقي للحركة الوطنية، فقد كان المفهوم السائد هو ربط المقاومة المسلحة بفكرة الحركة الوطنية والدفاع عن الوطن، و دائما كان السلاح هو الوسيلة التي اعتمدها المغاربة للدفاع عن أنفسهم خلال الفترات التاريخية التي تعرض فيها للغزو والاحتلال.(1 )

   لقد شكت معاهدة الحماية التي وقعها السلطان المولى عبد الحفيظ مع السلطات الفرنسية في 30 مارس 1912 نهاية لمرحلة طويلة من تاريخ المغرب المستقل، ودخل مرحلة جديدة تمثلت في فقدان هذا الاستقلال، مما ولد شعورا قويا بالانتماء للوطن وقد كان هذا الإحساس هو السبب الرئيسي لتصدي القبائل المغربية للاحتلال الأجنبي بواسطة مقاومة مسلحة، ولم تستسلم إلا بعد استنفاذ جميع الوسائل المتاحة.

الإرهاصات الأولى لنشوء الحركة الوطنية

    لقد بدأت الإرهاصات الأولى للحركة الوطنية سنة 1925م مع نهاية حرب الريف، فقد كانت ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي وما خلفته من صدى في الخارج والداخل، وما حققته من انتصارات على الاسبان في معركة ظهر اوبران وأنوال الأمل الوحيد للمغاربة في دحر الاحتلال العسكري بالقوة.

    لكن النكسة التي خلفها استسلام محمد بن عبد الكريم الخطابي بعد التعاون الاسباني الفرنسي ونفيه إلى الخارج، خلفت تأثيرا سلبيا في النفوس، ورغم استمرار المقاومة العسكرية في الأطلس إلى سنة 1933 فإنه لم يكن لها ذاك الزخم الذي كان لثورة الريف، فكان لا بد من بديل آخر يساير المرحلة الجديدة فنشأت بوادر حركة وطنية جديدة تبنت العمل السلمي ولم تراهن على العمل العسكري.

   بعد انتهاء مرحلة المقاومة المسلحة بدأت الإرهاصات الأولى للحركة الوطنية تتشكل عبر تأسيس أول تنظيم ذي طابع سياسي أطلق عليه اسم “الرابطة الوطنية” وذلك سنة 1926م، وقد ضم زعماء ينتمون إلى الشمال والجنوب، مما يعني رفض الإقرار بواقع التجزئة الذي فرضته الحماية الفرنسية.

    وبخلاف المقاومة المسلحة التي تركزت في البوادي، فان المدينة ولأول مرة ستنهض للقيام بدور النضال السلمي كبديل عن النضال بالسلاح، وقد تركزت بدايات الحركة الوطنية بالمدن الرئيسية الكبرى فاس تطوان سلا الرباط على يد طبقة تنتمي إلى البرجوازية المتوسطة التي تخرجت من المدارس العتيقة كالقرويين، فيما البعض الأخر درس في المشرق.

    وتعتبر الحركة السلفية الإصلاحية المشرقية التي تعود جذورها إلى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا كان لها تأثير كبير على الحركة الوطنية بالمغرب، وقد ساهمت الدروس التي كان يلقيها رواد هذا التيار بالمغرب خصوصا أبو شعيب الدكالي ومحمد بن العربي العلوي في الرد على الاطروحات التي ربطت الإسلام بوضعية التخلف من جهة، كما استطاعت امتصاص الصدمة الناتجة عن الهزيمة العسكرية التي لحقت بالمقاومة المسلحة من جهة أخرى.

   وقد تعززت هذه الحركة بالزيارة التي قام بها شكيب ارسلان لمدينة تطوان سنة 1930م ، لقد كانت للتأثيرات المشرقية وللاتصالات والمراسلات التي استمرت بين رواد الحركة الوطنية وشكيب ارسلان أثرها الكبير في بلورة نضج الحركة الوطنية.

  صدور الظهير البربري في 16 ماي 1930م ونشوء أول تنظيم سري مغربي.

   لقد كانت الصورة التي رسمتها معظم الدراسات الاستعمارية للمغرب أنه بلد مقسم إلى كتلتين بشريتين متمايزتان “العرب” و”البربر” والى منطقتين “بلاد السيبة” وبلاد المخزن” والى نظامين”نظام عرفي” سائد في المناطق الامازيغية، ونظام شرعي في المناطق العربية.

    لقد كان الظهير البربري محاولة للتقسيم أراد بها الفرنسيون تفكيك أسس الوحدة الوطنية والتماسك الديني والاجتماعي عبر إخضاع الامازيع إلى قانون المحاكم العرفية والفرنسية إن اقتضى الحال، والعرب للمحاكم الشرعية، وتعود الجذور الأولى لهذا الظهير حقيقة لسنة 1914م حيث صدر آنذاك الظهير الذي اقر احترام ومراعاة النظام العرفي الجاري به العمل في القبائل التي لا توجد فيها المحاكم الشرعية.

   وقد كان رد الفعل المغربي قويا على هذا الظهير فبدأت الاجتماعات في المساجد إذ لم تكن هناك مقرات  للتجمع غيرها، وتعممت قراءة دعاء اللطيف بشكل جماعي، وخرج المصلون في مظاهرات شعبية إلى الشوارع، وكثرت الاحتجاجات والتظاهرات في جل المدن(2) وعلى إثرها بدأت الاصطدامات الأولى مع الاحتلال الفرنسي، فبدأت سلسلة اعتقالات واسعة، و تكونت  على إثرها حركة تزعمت جمع التوقيعات والعرائض المنددة، انتهت بتكوين أول وفد مفاوض استهدف الإفراج عن المعتقلين ولقاء السلطان، وقد تم تحقيق ذلك مقابل توقيف التظاهرات وقراءة اللطيف.

    بعد هذه التطورات مباشرة تم تكوين تنظيم سري رافض للظهير البربري ومحتوياته، وقد تكون من رجال الحركة الوطنية في المنطقة الشمالية الاسبانية والجنوبية الفرنسية في انسجام وتوافق تام .

وصول الجمهوريين إلى السلطة سنة 1931م في اسبانيا وآمال الوطنيين بالشمال.

    بعد الانقلاب الذي أطاح بالملك الاسباني الفونس الثالث، تولى الجمهوريون السلطة باسبانيا، فكانت فرصة مناسبة عمل الوطنيون في المنطقة الشمالية على استغلالها من خلال صياغة مطالب إصلاحية ، فجاءت الرسالة الشهيرة لعبد السلام بنونة  إلى السلطات الاسبانية التي تضمنت مطالب كثيرة لكنها لم تخرج عن سياق المطالبة بالإصلاحات في ظل نظام الحماية(3)، فقد تم التركيز على توسيع مجال الحريات العامة والسماح بصدور المجلات والجرائد ،والدعوة إلى تكوين مجالس بلدية منتخبة، وفتح المدارس في البوادي و الثانويات في المدن، واعتماد اللغة العربية إلى جانب اللغة الاسبانية في التدريس . وقد صدرت خلال هذه الفترة مجموعة من الصحف أهمها مجلة المغرب، يديرها شخصيات فرنسية واسبانية متعاطفة مع القضية المغربية ويشرف عليها حقيقة احمد بلافريج، ويكتب فيها الوطنيون أمثال عمر بن عبد الجليل ومحمد اليزيدي بأسماء مستعارة، وفي سنة 1933 صدرت صحيفة عمل الشعب بفاس وأشرف علي إدارة تحريرها محمد بلحسن الوزاني، وكانت غالبية مواضيع هذه الصحافة آنذاك تدور حول الظهير البربري.

 1934 نشوء كتلة العمل الوطني وبداية العمل الحزبي العلني.

     بصدور قانون إلحاق المغرب سنة 1934 بوزارة المستعمرات، عملت النخبة المغربية على صياغة مطالب جديدة تتماشى والمرحلة لجديدة ، وفي هذا السياق برز إلى الوجود أول تنظيم حزبي علني باسم “كتلة العمل الوطني” التي عملت على صياغة برنامج الإصلاحات، وقد تقدمت به في نفس السنة إلى الإقامة العامة والى الحكومة الفرنسية والى السلطان المغربي .

   ولم يعترض برنامج الإصلاحات بتاتا على نظام الحماية بل طالب الحكومة الفرنسية أن تحترم ما جاء في منطوق معاهدة فاس، وذلك بإلغاء الإدارة الاستعمارية المباشرة  والحفاظ على الوحدة الإدارية والقضائية بالمغرب(4).

وقد تضمن برنامج الإصلاحات مجموعة من المطالب التي يمكن تلخيصها في ما يلي:
_السماح بإنشاء مدارس حرة “للأهالي”.
_طلب بناء مستشفيات للعلاج.
_ جعل مداخيل استثمار المناجم من اختصاص السلطات المغربية.
_ المساواة بين الفلاحين المغاربة والمستعمرين في الضرائب.
_إيقاف نزع الملكية عبر التحايل أو بالقوة ولاغتصاب.

    لم يؤخذ برنامج الإصلاحات الذي تقدمت به كتلة العمل الوطني بعين الاعتبار من طرف المقيم العام الفرنسي بونصو وإنما اكتفى بتقديم الوعود الكاذبة.

وصول الجبهة الشعبية إلى الحكم في فرنسا سنة 1936م وتأسيس كتلة العمل الوطني.

     بوصول الجبهة الشعبية إلى الحكم في فرسا تجددت آمال الوطنيين من جديد، فقامت الكتلة بصياغة برنامج مستعجل ضم مجموعة من المطالب المستعجلة من بينها تغيير المقيم العام، وقد نشطت الحركة الوطنية نسبيا خلال هذه الفترة خصوصا في المجال الصحفي.

     وخلال تواجد كل من محمد بلحسن  الوزاني وعمر بن عبد الجليل بفرنسا ،إذ وكل لهما أمر تقديم اللائحة المطلبية للحكومة الفرنسية، عقد المؤتمر الوطني الأول لكتلة العمل الوطني سنة 1936 بشكل علني وتم انتخاب علال الفاسي زعيما للحزب وعند عودة  محمد بلحسن الوزاني من فرنسا لم يرضى بالتشكيلة التي أفرزتها نتائج المؤتمر أثناء غيابه، فغادر الكتلة بشكل نهائي وأسس جزبا جديدا سماه الحركة القومية سنة 1937م(،5) وبعد اندلاع أحداث بوفكران المؤلمة في نواحي مكناس  تم اعتقاله ونفيه إلى الصحراء إلى سنة 1946، وقد قام علال الفاسي بدوره تغيير اسم حزب كتلة العمل الوطني إلى الحركة الوطنية ثم إلى الحزب الوطني سنة 1937م، إلا أن توالي الأحداث بسرعة خصوصا في مكناس ونظرا لاندلاع التظاهرات بشكل قوي، قامت سلطات الحماية باعتقال العديد من الزعماء الوطنيين منهم علال الفاسي بتهمة تكوين حكومة سرية مناهضة للسلطان، وقد تم نفيه إلى الغابون ولم يعد الا سنة 1946م، في حين التحق كل من احمد بلافريج  وعمر بن عبد الجليل بالمنطقة  الشمالية الاسبانية، وبعد خروج محمد اليزيدي من السجن استمر نشاط الحزب الوطني في المنطقة الفرنسية  بقيادته فقد عوض غياب علال الفاسي أثناء فترة غيابه(6).

      هذا فيما يخص مصير كتلة العمل الوطني أما بخصوص الحركة الوطنية في الشمال فإلى حدود سنة 1935م كان عبد السلام بنونة الرابط الأساسي وخط التواصل الذي ارتكزت عليه العلاقات بين المنطقتين، لكن بعد وفاته في هذه السنة ووصول فرانكو إلى السلطة في فرنسا سنة بعد ذلك(1936م) وقع انقسام بين رؤية الحركة الوطنية في الجنوب التي عارضت نظام فرانكو)7( في حين كان موقف أقطاب الحركة الشمالية مختلف تماما فقد  ناصروا فرانكو ورأوا أن وصوله للسلطة ربما يفيد في تحقيق مكاسب جديدة، وفعلا فقد تم تخفيف الضغط على العمل الوطني بالشمال، فتأسس حزب الإصلاح الوطني في 18 دجنبر 1936م،  وعين على رأس وزارة الأوقاف وسمح له بإصدار صحيفة الحرية.

    بعد توسع نفوذ حزب الإصلاح قام المقيم العام الاسباني بيكبيدير بتشجيع المكي الناصري على تأسيس حزب الوحدة المغربية للحفاظ على نوع من التوازن، وقد وجد في عدم ورود اسمه ضمن لائحة حزب الإصلاح مبررا لذلك، وأصدر جريدة الوحدة المغربية)8)

   لكن سياسة الانفراج والتفتح لم تدم طويلا، فمع اندلاع الحرب العالمية الثانية تغيرت الظروف فازدادت سياسة فرانكو صرامة بتعيين اوركاز مقيما عاما جديد أعلن حظر الأحزاب والحريات العامة.

     لم تستطع الحركة الوطنية المغربية منذ نشأتها تحقيق مطالبها الإصلاحية الأساسية في ظل نظام الحماية، فانتقلت إلى المطالبة بالاستقلال بعد الحرب لعالمة الثانية، فقد اتضح آن المدخل الحقيقي للقيام بالإصلاحات لن يتأتى إلا من خلال لحصول على  الاستقلال.


الهوامش
1 انظر كتاب عبد الكريم غلاب( تاريخ الحركة الوطنية المغربية من نهاية حرب الريف إلى إعلان الاستقلال)الجزء الاول
2 يراجع مذكرات محمد بن الحسن الوزاني (حياة وجهاد التاريخ السياسي للحركة التحريرية المغربية 1900_1955)مؤسسة محمد حسن الوزاني.
3  للمزيد راجع محمد ظريف( الأحزاب السياسية المغربية 1934_ 1975)منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع لسياسي.
4 البير عياش (المغرب والاستعمار حصيلة السيطرة الاستعمارية) منشورات دار الخطابي وعلال الفاسي (الحركات الاستقلالية في المغرب العربي)
5 للمزيد حول هذا الانشقاق انظر ( الأحزاب السياسية المغربية) محمد ظريف، مرجع سابق.
6 المرجع اعلاه.
7 R Razette( les partis politiques marocains) :::paris 1955 ;  ;8 _ 
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -