أخر الاخبار

تمرد ولد الطاهر الرحماني على المولى عبد العزيز الذي حوله الفرنسيون لفيلم سينمائي

تمرد ولد الطاهر الرحماني على المولى عبد العزيز الذي حوله الفرنسيون لفيلم سينمائي

موقع : تاريخ
في أواخر العام 1920، احتفت الصحافة الفرنسية الصادرة بالمغرب بحدث فني مَثَّل سابقة. ويتعلق الأمر بالانتهاء من تصوير أول شريط سينمائي بالمغرب، حمل «مكتوب» عنوانا له وهي كلمة لها حمولة دينية قوية لدى «الأهالي»، وكتب له السيناريو عالم الاجتماع الفرنسي المستعرب الشهير إدموند دوتيه Edmond Doutté، الذي كان خبيرا ومطلعا جيدا على ثقافة شعوب شمال إفريقيا وعقليتهم. ويستند الشريط في حبكته الدرامية إلى قصة حب يائسة، تتفاعل في إطار صراع سياسي جرت أطواره في منطقة قريبة من مراكش في السنين القليلة الأخيرة من القرن التاسع عشر. ويتطور الصراع في الشريط وفق نموذج الحكايات الذي كان معروفا آنذاك في المغرب: يتمرد «قايْد» على السلطان، فينال العقاب المعروف المخصص للمتمردين حيث يسجن في قفص حديدي ويحمل على دابة، ثم يطاف به بين رعاع المدينة لينالوا منه بأذاهم…



حب في زمن التمرد

بطل الحكاية هو ابن الطاهر (ولد الطاهر) الذي كان من أعيان قبيلة الرحامنة الأثرياء. كانت حياته فوضى ومرحا وترفا كما هي حياة «قياد» مغرب فجر القرن العشرين. وهكذا نراه في بداية الشريط يتسلى مع بعض ضيوف القبيلة أثناء حفل أحيته «الشيخات» ذات مساء، فتنبهر إحداهن وهي «الشيخة طامو» بوسامة ولد الطاهر ولا تُخفي عنه مشاعرها.
يرسل باشا مراكش القوي في طلب «القايْد» ولد الطاهر، وعندما يمثل أمامه يوبخه الباشا على الحياة غير المنضبطة التي يعيشها، ويحذره من مغبة التمادي فيها. ثم ينهي الباشا خطاب التهديد والوعيد بأن يعين ولد الطاهر «قايدا» على منطقة وادي درعة (في جنوب المغرب)، ويأمره بالالتحاق توا بعمله الجديد.

يغادر ولد الطاهر قصر الباشا ليلتحق بمنصبه، فتقع عيناه على الجميلة السعدية حفيدة الباشا التي كانت تطل من السطح. فتأسر قلبه بجمالها وتبادله من بعيد إعجابا بإعجاب.

ولم يكد يمر وقت طويل على ذلك حتى بلغ إلى علم الباشا بأن قبيلة الرحامنة قد تمردت، وفي الوقت نفسه وصلته أنباء عن كون ولد الطاهر يتعسف على الناس في المنطقة التي عين فيها «قايدا». فبعث إليه أمرا مستعجلا بضرورة المثول بين يديه. وأثناء ذلك، ذهبت «الشيخة طامو» التي وقعت في حب ولد الطاهر تبحث عن فقيه يصنع لها طلسما سحريا لاستمالة قلب حبيبها إليها. ولكن لسوء حظها، وبينما دخلت المسجد لتبحث عن الفقيه تم توقيفها لأن النساء ممنوعات من ولوج قاعة الصلاة الخاصة بالرجال في المسجد، واقتيدت إلى الباشا لينظر في أمرها.

عندما وصل القايد ولد الطاهر إلى مراكش، دخل على الباشا فوجده يوبخ «الشيخة طامو» على فِعلها، فالتفت إليه الباشا الغاضب يوبخه هو الآخر ويلومه على تعسفه على الناس. لكن «الشيخة طامو» لم تتحمل ذلك فردت على الباشا ودافعت عن حبيبها القايد ولد الطاهر، ما زاد من غضب الباشا اشتعالا فأمر برميها في السجن.

ثم واصل الباشا حديثه مع ولد الطاهر بعبارات كلها وعيد وتهديد. واشترط عليه لكي يغفر له سوء تصرفه أن يعود إلى قبيلته (الرحامنة) ليقنعها بإنهاء تمردها. فوافق ولد الطاهر لكنه اشترط على الباشا أن يزوجه في المقابل حفيدته السعدية. فصمت الباشا ولم يقبل ولم يرفض. وأثناء مغادرته قصر الباشا، التقى ولد الطاهر حبيبته السعدية وصرح لها بحبه لها، فردت عليه: «احرص من جانبك فقط على إنجاح المهمة التي كلفك بها جدي، وأعدك من جانبي أن أكون لك.»

تمكنت «الشيخة طامو» من الهرب من سجنها ولجأت إلى قبيلة ولد الطاهر. وفي ظل تلك التطورات المقلقة، يقرر والد السعدية إبعاد ابنته فيغادران مراكش في قافلة. أما ولد الطاهر فيجتمع بأعيان قبيلته بمجرد وصوله إلى الرحامنة، ويحاول جاهدا التأثير فيهم لثنيهم عن مواصلة تمردهم. وبينما هم مجتمعون، دخل عليهم قاطع طريق ينتمي إلى القبيلة ليخبرهم بأنه وعصابته اعترضوا سبيل قافلة وأمسكوا بركابها الأثرياء. فقاطعه القايد ولد الطاهر ونهره بشدة، ثم أمر بمعاقبته على ما اقترف، لكن بعض الأعيان الذين يكنون مودة للقايد أسروا له بأن معاقبة قاطع الطريق ليست فكرة صائبة، وبأنه إن أقدم عليها سيجر على نفسه غضب القبيلة. فأطلق ولد الطاهر سراح قاطع الطريق مكرها، لكنه حذره من مغبة التعرض بأذى للأسرى.

وتابع ولد الطاهر اجتماعه بأعيان القبيلة، فتبين له أن الرأي السائد يدفع باتجاه متابعة التمرد وأنه لن يستطيع تغيير مجرى الأمور، فانتهى إلى تبني رأيهم وأعلن لهم عن ذلك. فعم الفرح القبيلة بانضمام ولد الطاهر إلى حركة العصيان، وأقيمت مباهج وأفراح تخللتها الفروسية وحفلات غنت فيها «الشيخات» ورقصن. وخلال تنقله بين مجالس الفرح التقى ولد الطاهر طامو، التي كانت تغني بانشراح فسعدت كثيرا لرؤيته، وبعث رجاله ليأتوه بأسرى القافلة.

لكن القايد ولد الطاهر بدا مشوش التفكير لأنه كان يعلم ما ينتظره وقبيلته بسبب التمرد، فذهب عند (شوافة) عرافة لتقرأ له مستقبله. فكشفت له بأن نهايته سوف تكون مفجعة في السجن.. ولم تكد العرافة تنهي كلامها حتى أتى رسول يخبر ولد الطاهر بقدوم الأسرى، فتبين بينهم حبيبته السعدية ووالدها.

حار ولد الطاهر في القرار الذي عليه أن يتخذه في موضوع الأسرى دون أن تغضب القبيلة عليه. وبينما هو مطرق يفكر، ثارت الفوضى من حوله إذ شرع الرجال في الركض في كل اتجاه وهم يصرخون بأن «حَرْكة» السلطان في طريقها إلى مضارب القبيلة. فأمرهم ولد الطاهر بأن يستعدوا للمقاومة، ثم عهد بالسعدية ووالدها إلى بعض الثقات من رجاله كي يقتادوهما بأمان في حراسة جيدة حتى يبلغونهما مراكش.

قمع التمرد وموت الحب

تشتت بعد ذلك عصبة القبيلة وانهزمت هزيمة نكراء فر على إثرها ولد الطاهر في جماعة من الأعيان على جيادهم، تاركين الرحامنة يواجهون مصيرهم في مواجهة زحف جيش السلطان المدعم بفرسان من القبائل عليهم. فقضي على التمرد بينما وصلت السعدية ووالدها إلى مراكش سالمَيْن، وانهارت المسكينة تماما لسوء عاقبة حبيبها ولد الطاهر وأهله، فذهب والدها الذي تأثر كثيرا بشهامة ولد الطاهر إلى الصدر الأعظم [كبير الوزراء] في محاولة منه للتدخل لفائدته. بيد أنه عاد خائبا إذ تلقى ردا قاطعا بأن لا أمل في إنقاذه، فقد قيل له إن ولد الطاهر سيلقى جزاءه لأنه خائن متمرد.

كانت السعدية تتجول في حديقة كبيرة عندما تلقت النبأ المفجع بوقوع حبيبها أسيرا وبكونه سوف يساق مكبلا نحو مراكش، وسمعت «الشيخة طامو» التي كانت تقف قريبا من السعدية كل شيء. وفي غمرة يأسها لفقدان الحبيب الغالي، توسلت السعدية غريمتها طامو التي يسمح لها وضعها كـ»شيخة» أن تلج مجالس الرجال دون حرج عكس باقي النساء، أن تذهب إلى الصدر الأعظم لتستعطفه العفو عن القايد ولد الطاهر. ولمحت لطامو بأنها إذا استطاعت إنقاذ حياته فإنها سوف تتنازل لها عنه. فتخلت طامو عن غيرتها ووعدتها بالتدخل.

وقف ولد الطاهر مكبلا أمام الصدر الأعظم، فذكره هذا الأخير بالعقاب القاسي الذي ينتظره كمتمرد على سلطة السلطان: سوف يسجن في قفص حديدي ويطاف به دروب المدينة وأزقتها وسط الرعاع الذين سوف يشتمونه ويضربونه ويلقون عليه القاذورات، ثم يدخل السجن ليمضي فيه ما تبقى من عمره حتى يتعفن ويموت شَرَّ موت كما يليق بخائن.

واجه ولد الطاهر الموقف العصيب بشموخ ورد على الصدر الأعظم بأنه لا حيلة له أمام «المكتوب». ورغم أن طامو توسلت إلى الصدر الأعظم كي يصفح عن حبيبها إلا أن هذا الأخير رفض تقبل العفو عنه وفضل مواجهة مصيره بشجاعة.

وتوصلت السعدية من طامو بخبر فشل تدخلها، بينما كانت تقف فوق سطح بيتها، في المكان نفسه الذي رآها فيه ولد الطاهر أول مرة. لكن المسكينة ما كادت تشاهد مرور حبيبها في قفص على ظهر جمل حتى ماتت كمدا عليه وحزنا، إذ لم تحتمل رؤيته منهزما تسخر منه رعاع مراكش تحت سور بيتها. وعلى ذلك المشهد ينتهي شريط «مكتوب».

الخلفية التاريخية للشريط

كما أسلفنا، نسج الشريط حبكته الدرامية على خلفية واقعة تاريخية معروفة تنتمي إلى فترة الظاهرة «القايْدية»، وتتمثل في التمرد الشهير لقبيلة الرحامنة على السلطان عبد العزيز بن الحسن الأول في خريف 1895. وهي حكاية تستحق أن تروى من باب العلم بالشيء أولا، ومن أجل فهم أفضل للخلفية التاريخية للشريط كذلك. ونعتمد في كتابتها مصدرين على درجة من التباين وهما من جهة المستعرب إدموند دوتيه (هو نفسه الذي كتب سيناريو الشريط)، الذي نقل عن مصادر محلية عايشت الأحداث بعض فصول التمرد في كتابه (مراكش) الصادر في 1905. والمصدر الثاني هو مؤرخ البلاط عبد الرحمن بن زيدان السجلماسي في الجزء الأول من كتابه (الإتحاف)، حيث ينقل الرواية الرسمية عن الأحداث دون حياد.

وتجدر الملاحظة أن إدموند دوتيه أخطأ في اسم القايد متزعم تمرد الرحامنة حيث يسميه (الطاهر بن سليمان)، بينما اسمه مبارك بن الطاهر بن سليمان الرحماني.

أما بخصوص الوقائع، فيقول ابن زيدان إن جيش السلطان [كان يسمى الحَرْكة] نهض من فاس في أواخر ربيع الأول 1313 ه (منتصف سبتمبر 1895) وسار إلى ناحية مراكش التي أعلنت فيها قبائل الرحامنة الثورة. فانضم إليه قواد من دكالة والحوز بقواتهم من العرب والبربر وساروا جميعا حتى بلغوا مشارف الرحامنة، فدعوا أعيان الرحامنة للصلح وتوعدوهم وأنذروهم من قسوة عقوبة المخزن. لكن تلك المساعي لم تنفع لغرور الرحامنة بقوتهم وعصبيتهم، فتمادوا في تمردهم حتى إذا ما اقترب جيش السلطان من مراكش اختل أمر المتمردين وانهزموا. بيد أن دوتيه يوضح نقلا عن مصادره المحلية بأن السلطان عمل على إرشاء زعماء المتمردين ووعد بعضهم بمناصب وامتيازات، فتأتى له شق صفوف الرحامنة وبالتالي هزمهم.

وبخصوص بطل الشريط القايد مبارك بن الطاهر، تقول رواية ابن زيدان إن الرحامنة بعد اندحارهم رضخوا لشروط السلطان عبد العزيز، فأدوا الغرامات الثقيلة وقدموا مئات الفرسان من قبيلة الرحامنة الذين أمرهم السلطان بالانضمام إلى جيشه، وزادوا على ذلك بأن سلموا إليه عددا كثيرا من رؤسائهم (أعيان القبيلة المهزومة)مغلولين في السلاسل وفي مقدمتهم «مبارك بن الطاهر بن سليمان الرحماني – وكان عاملا للسلطان مولاي الحسن على درعة وأعمالها – الذي سعى في الأرض الفساد وخرب مدينة دمنات وغيرها، وشن الغارات على مراكش وهم غير ما مرة باقتحامها عنوة… «

ويضيف ابن زيدان بأن الحرس المخزني المسمى بـ»المْسَخرين» أتوا بركن الفساد المدعو ابن الطاهر مع ولده الفاطمي وأخيه سليمان، بعد أن اعتقلوهم في شهر رمضان من العام المذكور (الموافق فبراير 1896) في زاوية سيدي علي بن ابراهيم بمنطقة تادلة.

فأتي السلطان عبد العزيز وحاشيته ليشاهدوا «رأس الفتنة» مكبلا ذليلا «ثم وضع في قفص من حديد وأُركِبَ على جمل أعرج [إمعانا في إذلاله] وطيف به في المحلة السعيدة عاري الرأس والصفع [ينزل عليه] في قفاه من كل ناحية حتى كاد أن يموت من العذاب، ثم صفد من يده ورجله وسجن في قفص من حديد كالخنزير أو كالكلب العقور [المسعور]. »

ويقدم دوتيه رواية مختلفة إذ يقول بأن أصل المشكل يعود إلى أن باشا مراكش اعتقل قياد الرحامنة في السجن ومنهم ولد الطاهر بن سليمان المذكور، فتمردوا وهجموا على المدينة وحاصروها، واشترطوا أن يطلق سراح قايدهم لكن الباشا رفض وأغلق أبواب مراكش بعد هجوم الرحامنة بأعداد كبيرة على المدينة. فتطورت الأحداث بسرعة ووجد القايد نفسه مدفوعا إلى تزعم التمرد أكثر منه موجها للأحداث. وانتهى الأمر بتدخل الجيش السلطاني لقمع التمرد، ونجاح القايد ولد الطاهر في الفرار، حيث التجأ إلى زاوية سيد الزوين (بحوز مراكش) متحرما بها. لكن المخزن أمر الشرفاء القيمين على الزاوية بضرورة تسليمه لينال جزاءه ويكون عبرة.
لكن القايد ابن الطاهر ظل يمسك بكل قواه بالدثار الذي يغطي قبر الولي سيدي الزوين، محذرا الشرفاء الذين يهددون باعتقاله من المس بحرمة الضريح. وبعد أن تداولوا بينهم عن حل قرروا أن يخرجوا القايد اللاجئ هو وغطاء القبر، حتى إذا أخرجوه اعتقله المخازنية وحملوه إلى مراكش حيث ينتظره السلطان.

ويضيف دوتيه بأن القايد المتمرد لقي حتفه بالسم في السجن بعد وقت قليل من اعتقاله. وراج أن الصدر الأعظم (بَّا احماد) هو من أمر بتسميمه حتى يتخلص من عبئه، لأنه خاف هروبه من السجن وقيادته لتمرد آخر.
مشاهد مطابقة للواقع

وبالعودة إلى شريط «مكتوب»، من المدهش أن مشاهده جرى تصويرها في الأماكن الحقيقية التي شهدت وقوع الأحداث، سواء داخل قصر باشا مراكش أو في مرابع قبيلة الرحامنة [التي تبعد للإشارة حوالي 50 كيلومترا شمال مراكش]، وفي الدواوير نفسها التي عاشت فصول التمرد والحب. ليس ذلك وحسب، بل إن منتجي الشريط سعوا ما أمكنهم إلى توظيف الأشخاص الحقيقيين الذين ساهموا في الوقائع. وهكذا، وإذا ما استثنينا الممثل المسرحي م بوغايرت من مسرح الأوديون الفرنسي الذي لعب دور (ولد الطاهر) والممثلة ماري هارالد التي أدت دور السعدية، فإن باقي الممثلين في الشريط كانوا مغاربة لعبوا قدر الإمكان أدوارهم الحقيقية.
وهكذا فقد لعبت دور طامو «شيخة حقيقية» تسمى سعيدة بنت سعيد، كما أن فرقة «الشيخات» التي مثلت في الشريط هي نفسها التي كانت في الواقع قبل ربع قرن، والمخازنية هم أنفسهم، وكذلك «الطُّلْبَة» والفقهاء. ومن أجل تصوير الشريط أقيمت حفلات فروسية رائعة، كما خرج موكب السلطان للغرض نفسه.
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -