أخر الاخبار

لا نرضى أن تقال كلمة سوء في حق الأتراك

في هذه المقالة التاريخية الهامة: أشاد الأمير أرسلان بموقف نبيل من مواقف السلطان المغربي المولى يوسف رحمه الله؛ والمتمثل في ضغطه على فرنسا كي تسعى للتخفيف من شدة الطوق الذي كان يخنق دولة الخلافة في ذلك الوقت؛ فمع كونه تحت احتلال مقيد الإرادة استعمل ما بيده من أوراق ليدعم الدولة العثمانية في مواجهة تكالب القوى الإمبريالية.

كما كشفت المقالة حقائق هامة عن العلاقة الأخوية بين العرب والأتراك، خدمة الأتراك للدين الإسلامي، وكون الاستقلال المعاصر يرجع إلى قادة كبار وليس إلى أتاتورك فقط كما يروج، وأن الاستقلال تم بسبب الحمية الإسلامية وليس فقط الحمية الوطنية كما روجت لذلك العلمانية التركية …

لا نرضى أن تقال كلمة سوء في حق الأتراك

لا نرضى أن تقال كلمة سوء في حق الأتراك

توقيع: أمير البيان شكيب أرسلان
يسعدني أن أشارككم هذه المقالة النفيسة من مصدر مغربي عزيز نادر؛ وهو كتاب “الحركة الوطنية والظهير البربري للحاج بوعياد” رحمه الله تعالى.
اطلعت في جريدة “الجهاد” على مقالة بإمضاء السيد حسن النقشبندي رئيس علماء إزمير سابقا؛ يعاتب بها الأمة العربية على سكوتها على مقال نشره في الأهرام الأستاذ السيد محمد الغنيمي التفتازاني تحت عنوان “الأتراك والإسلام والقرآن الكريم”؛ فإن الكاتب المعترض يقول: يا ليت السيد التفتازاني لم يخرج عن الصدد فكان له الأجر من الله والشكر من العباد، ولكنه مع الأسف خلط فيه الطعن على المجاهدين الذين سبقونا بالإيمان خاصة الأتراك وحكومتهم عامة.
قال السيد النقشبندي: “وكنت أرجو أن يقوم أحد من الذين لهم الخبرة التامة بأحوال تلك الديار وبتاريخها القديم والحديث وشيء من خدماتهم للدين؛ يكون قوله ترياقا لتوثيق الرابطة القديمة الدينية بين العنصرين العربي والتركي، فمضى ستون يوما وأكثر ولم يقم أحد ليقول كلمة ..”.
إني لم أطلع على ما كتبه الأستاذ التفتازاني في الأهرام فلا أقدر أن أعطي في هذه المسألة حكما، وأظن أن الأستاذ المشار إليه في عقله ودينه لا يمكن أن يكون ممن يغمط الأتراك ولا ممن يبخسون الناس أشياءهم، فإن كان زل قلمه بشيء ذهب فيه مذهب التعميم أو أطلق كلمة تناولت الأتراك بدون استثناء فلا يكون ذلك منه إلا عن عجلة وحدة ساقه إليهما ما يجري كل يوم من حكومة أنقرة من الأعمال الهادمة للدين الإسلامي والموجهة لنقض كل حجر عربي باق في أساس الثقافة التركية، ووضع حجر أوروبي بمكانه؛ سواء كان ذلك ضروريا لرقي الأتراك أو لم يكن.
نعم؛ إن هذه المظاهر المتكررة والتي تتزايد يوما فيوما؛ وكلما سكت الأتراك عن واحد منها تمادت أنقرة إلى ما هو أفظع وأفجع؛ لابد أن تكون هي السبب الذي أثار الأستاذ التفتازاني فأصاب بقلمه ما لم يكن هو يريده وما كان الأتراك من حيث أنهم أمة لا يستحقون شيئا منه.
إنني كنت أول من رفع عقيرته في الاحتجاج على أعمال أنقرة هذه؛ وتعرضت في ذلك للسب والقذف؛ لا من جهة ملاحدة الأتراك فحسب؛ بل من جهة ملاحدة مصر أيضا الذين انهالوا علي بالشتم كما يتذكر كل أحد، وذلك انتصارا لرجال أنقرة.
إلا أني لم أرض ولا في وقت من الأوقات أن تقال كلمة سوء واحدة بحق الأمة التركية نفسها؛ التي لا يجوز في العدل أن يؤاخذها المؤاخذ بأعمال حكومتها الحاضرة، وهي تنكر من هذه الأعمال ما ينكره العرب وأشد مما ينكره العرب.
ومن تجول في تركيا في السنين الأخيرة علم أن هذه الأمة التركية الكريمة؛ برغم جميع النظم والقوانين اللادينية، وجميع العقبات التي وضعت في وجه التعليم الإسلامي في تلك البلاد؛ لا تزال مسلمة مؤمنة متمسكة بما كانت متمسكة به من عقائد شريفة وعنعنات زكية وعادات سليمة.
وهي تعزو كل ما هو حاصل فيها من فساد أخلاق وخلاعة وتهتك أعراض وسفاهة وغير ذلك من الآفات التي طرأت؛ إلى هذه السياسة اللادينية التي تُجري عليها أنقرة.
وما تصبر الأمة على هذه الموبقات إلا خوفا من فتن داخلية يغتنم فيها أعداؤها الكثيرون الغرة فيعودون وينقضون عليها عودا على بدء ويمحون استقلالها بعد أن أحرزته هذه المرة الأخيرة بشق الأنفس.
نعم؛ إن الأمة التركية هي التي أحرزت استقلالها وأحيته من العدم بعد أن كاد يطوى من الوجود، وهذا بفضل اجتماع جهود جميع مجاهديها؛ وأولهم: كاظم قره بكر باشا الذي قام قبل مصطفى كمال بثلاثة أشهر وقرر المقاومة والتحق به رءوف بك وعلي فؤاد باشا ومصطفى كمال باشا وأرمت باشا، ثم انضم إليهم رجال كثيرون من قادة الأتراك مثل: نور الدين باشا وعلي إحسان وغيرهم.
ولبثوا يجاهدون عدة سنوات، وأيدهم في ذلك مجلس الأمة الذي كان أكثره من رجال الدين، كما أن النهضة التي نهضتها تركيا لدفع اليونان ولاسترجاع استقلالها كان العامل الأعظم فيها حمية الترك على الإسلام، وقد صرح بذلك كبار قوادهم؛ حتى أن مصطفى كمال نفسه أيام كانت الحرب ناشئة ولم يكن أمن من جهة عاقبتها؛ طالما ذكر في خطبه أنه إنما هو ثائر لأجل الإسلام ولأجل الخلافة، وكثيرا ما نوه بذكر العرب وبذكر المصريين وبذكر الهنود وغيرهم قائلا عنهم:
“إخواننا في الدين (ديند اشلرمز)”.
ثم إنه ليس بصحيح أنه لولا مصطفى كمال لم تقم قائمة للأتراك في الكارثة الأخيرة؛ فمصطفى كمال من كبار القواد؛ لا نزاع في ذلك، وله مواقف مشهورة في حرب الدردنيل ومواقف في محاربة اليونان الأخيرة، ولكنه ليس بأعلى درجة في الفن العسكري من علي إحسان باشا الذي هو صاحب الخطة الحربية التي انتهت بهزيمة اليونان، وكذلك لم يكن فضله كفضل كاظم قره بكر باشا الذي بدأ المقاومة هو وأهالي الأناضول بتحريض علماء الدين منهم قبل أن يلتحق بهم مصطفى كمال بعدة أشهر.
وكيفما كانت الحال؛ فليس هو هذا موضوعنا الأصلي؛ وإنما موضوعنا الأصلي: أن الأمة التركية العريقة في المجد لا تزال ولله الحمد من أشد الأمم الإسلامية استمساكا بعروة الدين الحنيف وأن الذين وجدوا من الأوروبيين في تركيا في رمضان الماضي ورمضان الذي قبله قد اقتنعوا بعد مشاهدة العيان بأن لا شيء يزحزح هذه الأمة عن إسلامها، وكتبوا بمشاهدتهم إلى الجرائد الأوروبية ومن جملتها جريدة “التايمز” (TIMES).
هذا عن الحاضر، فأما عن الماضي:
فمن يقدر أن يقول كلمة سوء يقبلها مسلم بحق الأتراك؟؟
إن الأتراك منذ دخلوا في الإسلام أيام المأمون ثم أيام المعتصم رحمهما الله؛ صاروا من أركان الدولة الإسلامية واستلتهم الخلافة العباسية سيوفا شهيرة وأسنة مرهفة لقمع كل من ينوي للإسلام شرا، وكانت الخلافة تقذف بهم في الثغور أينما كشر الشر عن نابه فيكونون نعم الذاذة ويسدون من الثغور ما لا يسده غيرهم.
وكم للأتراك من وقائع في جهاد بيزنطة؟
وكم لآل سلجوق من المواقف الشريفة في محاربة الروم والصليبيين؟
وأن أول سلطان مسلم قارع الصليبيين وتغلب عليهم: عماد الدين زنكي؛ وهو تركي.
وقد خلفه ابنه نور الدين زنكي الشهير الذي هو المثل المضروب في العدل والتقوى ومتابعة الجهاد، وهو المربي لصلاح الدين الأيوبي الكردي.
وقد كان في جيش نور الدين وجيش صلاح الدين من الأتراك عدد كبير وكان منهم الكماة والحماة الذين يضن التاريخ بأمثالهم؛ وأسماؤهم عندنا معروفة لا حمل هنا لسردها.
ونور الدين زنكي أجمع المؤرخون العرب على أنه السادس في العدل بعد الخلفاء الراشدين الأربعة وعمر بن عبد العزيز رحم الله الجميع.
وآل طولون بمصر أصحاب المآثر الخالدة؛ وناهيك جامع ابن طولون، أكبر مسجد في العالم، كانوا أتراكا.
ومحمود ابن سبكتكين السلطان الكبير المجاهد الماهد: فاتح الهند ومكسر أصنامها وناشر الإسلام في تلك الأقطار كان تركيا.
وربما قيل: أن المغول خربوا بلاد الإسلام وأنهم لم يبقوا ولم يذروا في تركستان وإيران وبغداد والشام وكانوا سبب بوار المشرق بما نسفوه من العمران وما ذبحوه من ملايين الخلائق ولا يوجد مؤرخ يقدر أن ينكر ذلك؛ ولكن المغول لم يكونوا يومئذ دخلوا في الإسلام بل نزلوا صاعقة على رأس الإسلام وقد أسكن الله شرتهم تدريجا وألهمهم الدخول في الإسلام فيما بعد؛ فصارت أعقاب أولئك المدمرين من أكبر أعضاء الإسلام.
وهم يوم أوجفوا وأوغلوا على ديار الإسلام نزل أكثر بأسهم في مسلمي الترك أنفسهم؛ لا سيما: سلطة خوارزم كما لا يخفى.
والسلطنة الإسلامية في الهند -التي منها انتزع الإنكليز الملك-؛ هي سلطنة تركية، وبها انتشر الإسلام في تلك الأقطار الواسعة؛ حتى صار له اليوم 77 مليونا من التبع.
فأما الدولة العثمانية فلا ينكر آثارها الخالدة ومواقفها الماجدة في جانب الإسلام ولا أبوتها الرحيمة على أبنائه إلا المكابر الأعمى الذي هو أشبه بمن يحاول تغطية نور الشمس في السماء؛ فمن يقدر أن يطعن على سلسلة شريفة كسلسلة آل عثمان؟؟
منها: عثمان وأورخان وبايزيد الأول وبايزيد الثاني ومراد الأول ومراد الثاني ومحمد الفاتح وسليم وسليمان وغيرهم من الفاتحين الكبار الذين ترتفع بقراءة سيرهم رؤوس المسلمين.
وإن كان من قوة معنوية باقية في صدور هذه الأمة تهب بها لاسترجاع مجدها فتكون مما تركه تاريخ الخلفاء الراشدين وبعض الفاتحين من بني أمية وبني العباس وآل عثمان.
لقد بقي هؤلاء السلاطين يذبون عن الإسلام شرقا وغربا مدة سبعمائة سنة كاملة، وجاء وقت كانت فيه أوربا بأجمعها ترتعد فرقا من صولة آل عثمان، وكان خوفهم يصل بأهل أوروبا إلى أنهم إذا جاء أسطول عثماني إلى طولون أو نيس؛ أبطل الأهالي هناك قرع الأجراس في كنائسهم.
وكان أهالي فيينا لا يبيتون ليلة إلا وهم معتقدون أنهم في اليوم التالي رعايا لابن عثمان، وبقيت المجر ملكا لابن عثمان مائة وخمسين سنة، وبودابست عاصمة إسلامية.
وجاء زمن كان الأسطول العثماني فيه هو الأسطول السائد في البحر المتوسط؛ وكانت رياح الإسلام تعصف في البحر كما تعصف في البر، ومن شاء أن يرى التاريخ المجسم فليذهب ويشاهد جوامع القسطنطينية ومدارسها ويشاهد فخامة تلك الأبنية التي مضت عليها القرون بزلازلها ونوازلها وهي باقية كالأهرام.
ولم يحتفل آل عثمان بشيء من المباني احتفالهم بالمساجد الشريفة التي صيروها حلية الأستانة وبهاءها ومفخرتها في أعين السياح الأجانب.
وهناك من المبرات لهذه العائلة في الآستانة، وفي تركيا، وفي بلاد العرب، وفي الحرمين الشريفين بنوع خاص؛ ما لا تحصيه الأقلام ولا تحصره الأرقام.
نعم؛ قد بقي الإسلام مئات من السنين في كفالة آل عثمان؛ وكان الترك، -والله لا يستحي من الحق-؛ هم سيوفهم المسلولة.

فليخفض السيد النقشبندي عن نفسه، ولتسكن حدته؛ فليس من عربي على وجه الأرض يكره تركيا إلا أن كان هنالك عربي مارق من الإسلام، وإن كان عربي مسلم يكره تركيا فلا يكون إلا تركيا من أولئك الملاحدة الذين هم طبقة واحدة من الترك والعرب معا.
أما العرب والترك المسلمون؛ فكلهم إخوان لا يشعر بعضهم بإزاء بعض إلا بالحنو والحنان.
وإلى هذه الساعة؛ إذا أصاب الترك كارثة مهما كانت؛ تجد العرب في مشارق الأرض ومغاربها قد اسودت لها وجوههم.
ومن ذهب إلى بلاد المغرب (مراكش والجزائر وتونس) وغيرها تحقق بنفسه أن أهالي تلك الديار -وكلهم معدودون من الأمة العربية-؛ يحنون على الترك كما يحنون على أنفسهم ولا يهم بهم شيء أكثر من خبر خير يأتيهم من جهة الآستانة.
وقد حدثني المرحوم نابي بك ناظر الخارجية العثمانية سابقا؛ نقلا عن المارشال ليوطي أنه طالما تكلم معه المرحوم السلطان يوسف سلطان المغرب ورجال تلك الدولة بأنهم يكونون  متعاونين مع فرنسا فيما إذا كانت تصلح سياستها بإزاء تركيا وتساعد تركيا على استقلالها.
قال المارشال ليوطي: “وقد كتبت مرارا إلى ميلران وبوانكاريه في هذا المعنى وكان لي يد في تعديل خطة فرنسا بإزاء تركيا؛ وكنت أقول لهم: “إنكم إذا أحسنتم معاملة تركيا تسهلون مأموريتي أنا في المغرب وتعمرون مصالح كثيرة لفرنسا”.
قد كان يفعل هذا رجال دولة عربية بدون أن يهمهم أن تعلم بذلك تركيا أو أن لا تعلم؟
لأن المسلم أخو المسلم: يشد أزره بما استطاع؛ علم أخوه بعلمه أو لم يعلم.
إننا لسنا الآن في مقام سرد تاريخ الترك، وإنما أشرنا إلى هذا التاريخ المجيد من قبيل لمح البصر.
ولم يقتصر فضل الأتراك على الجهاد بالسيف؛ بل كان لهم من الجهاد بالقلم ما لا ينكر؛ ومن شاء فليقرأ كتب التراجم لا سيما “الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية“؛ فيعلم كم خرج من هذه الأمة من فحول العلماء وأساطين الحكماء، وكم لهم من موقف شريفة في جانب الدين والفقه والحكمة.
ولا أظن الأستاذ التفتازاني ولا غيره من كتاب العرب يماري في هذه الحقائق.
ونحن والترك وإن انفصلنا في السياسة فلا نزال نريد خيرهم ونعلم أنهم يريدون خيرنا وهم يعلمون ونحن نعلم أن عدونا واحد وأن الخطر لا يأتي إلا من الجهة التي يكون الخطر فيها عليهم.
وإن كانت الفئة الكمالية قد أقدمت على أمور لا يقدم عليها محب للإسلام ولا للعرب؛ فما ذاك إلا سحابة صيف لابد أن يأتي وقت تنقشع فيه وتعود الأمور إلى نصابها.
فليخفف السيد النقشبندي عنه، وليعلم أن أنصار الترك من العرب قد يكونون أكثر من أنصار العرب بين الترك، وأن السواد الأعظم من الأمتين مرتبط أشد الارتباط.
ومرة دخلت على المرحوم السلطان محمد رشاد في سراي يلدز فكان أول كلمة قالها لي الآية الشريفة: “إنما المؤمنون أخوة“.
وهي آية يقولها كل تركي لكل عربي وكل عربي لكل تركي، ولكن على شرط أن يكونوا مؤمنين، أما غير المؤمن فلا حيلة لنا فيه، لا من هذه الجهة ولا من تلك الجهة، ومن يضلل فما له من هاد.
جنيف 28 ذي القعدة شكيب أرسلان

المصدر: الحركة الوطنية والظهير البربري (لون آخر من نشاط الحركة الوطنية في الخارج 1348هـ – 1930م)؛ (ص: 539-543)؛ تأليف: الحسن بوعياد؛ دار الطباعة الحديثة لدار البيضاء؛ الطبعة الأولى سنة 1399هـ – 1979م.
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -