“جسمه لا يخترقه الرصاص”، هي إحدى العبارات التي تناقلتها الألسن عبر أجيال لوصف ومدح عدي وبيهي عامل تافيلالت، نظرا لشراسته وحنكته الحربية ولقوة شخصيته وللكاريزمة الفريدة التي يتمتع بها، فقد سطع نجمه في الفترة الإستعمارية وبالضبط في العقد الثاني من القرن العشرين، حيث منحه الإستعمار الفرنسي مرتبة “قائد فزعة” وهو لا يزال في التاسعة عشر من العمر، بعد أن ساعد على إخضاع عدد كبير من قبائل الجنوب الشرقي، عبر طرق فريدة كان ينهجها سواء بالسلاح أو بالمهادنة والحوار، فواصل على نفس النهج فيما استمرت فرنسا ترقيته إلى قائد فزعة على منطقة “تيعلالين” ثم على “الريش” ليستفيد في آخر المطاف من التقسيم الإداري لسنة 1930 فتمت ترقيته إلى درجة قائد يوم 22 أبريل 1933، كما نال تعاطفا واسعا من طرف أئمة وفقهاء المساجد.
المؤرخ والباحث في مجال التراث لحسن آيت الفقيه، يؤكد على أن عدي وبيهي لم يكن عميلا للاستعمار بالمعنى المعروف للعمالة والدليل هو أنه يرفض تدريس أبنائه في مدارس فرنسا بل كان يفضل تدريسهم في المسيد (الكتاتيب القرآنية)، كما أنه كان وطنيا وينال احتراما من الوطنيين وكذا الإستعمار، بل إن الملك الراحل محمد الخامس دأب على حمايته بين الفينة والأخرى من الضربات الفرنسية التي تنهال عليه من أجل إضعافه بعد أن نال تعاطفا منقطع النظير من طرف القبائل.
آيت الفقيه، أشار أيضا إلى أن عدي ابن بيهي آيت رهو المنحدر من قبيلة آيت إزدك، كان ذو مال وجاه في المنطقة، حيث استفاد بصفته قائدا من نظام السخرة السائد آنذاك، لبناء قصبات كبيرة وبطرق معمارية رائعة ودخيلة على مجتمع الجنوب الشرقي المعروف ببساطة معماره المتميز أساسا ببناء القصور التي تأوي الساكنة، وفي هذا السياق، يوضح المتحدث أن عدي كان يحاول تقليد التهامي الكلاوي في نمط عيشه ونفوذه وحياة البذخ التي تأتّت له (عدي) منذ أواخر القرن 19 وبداية الـ20، إذ أن أسرته وبفضل نفوذها الكبير كانت تستقطب أعدادا من اليهود الذين يطلبون منها الحماية مقابل منحها كميات وافرة من الذهب والفضة والحلي الثمينة إضافة إلى الزرابي والأواني…، فرُوي أنه عندما دخل أحدهم غرفة بمنزل بيهي آيت رهو، وجد أنها مملوءة عن آخرها بتلك الكنوز، فقال والد عدي:”هذا هو الصعود، أما النزول فيعلمه الله”، في إشارة إلى أنه يجهل مصير ونهاية هذه العائلة النافذة، بعد الحياة المثالية التي عاشتها.
وبالعودة إلى موضوع المستعمر الفرنسي، فقد شعر هذا الأخير بتزايد نفوذ عدي وبيهي، وما يشكله ذلك من خطر على المصالح الفرنسية، فتم إيفاد لجنة للتحري والبحث، حيث جرى اعتقاله واتهامه بالجنون وفقدان العقل فتم إرساله إلى برشيد حيث يتواجد مستشفى الأمراض العقلية، وهي الواقعة التي ربطتها الرواية الشفهية في المنطقة بحادثة “الكلب”، إذ تفيد مصادر مقربة من عدي وبيهي أنه تم استدعاؤه سنة 1947من طرف سلطات الحماية لمركز الريش من أجل توشيحه، فأمر رجاله بإحضار كلب يوم الإحتفال، وحين قام أحد كبار الضباط بمحاولة تثبيث وسام حول عنق عدي وبيهي، أقدم هذا الأخير على وضعه في عنق الكلب، مما أثار حفيظة المسؤولين الفرنسيين ليتم “نفيه” وإيداعه بالمستشفى المذكور.
غير أن المؤرخ والكاتب الصحفي المخضرم عبد اللطيف جبرو، يؤكد لـ”أشكاين” على أن “سلطات الحماية لم تُدخل عدي وبيهي لمستشفى الأمراض العقلية بل تم إبعاده عن منطقته وإسكانه قرب ذلك المشفى ببرشيد”، نظرا لما تحمله هذه المدينة من رمزية، حيث كان ذلك بمثابة منفى له لتحطيم الكاريزمة التي يتمتع بها.
نقطة التحول الكبرى والتي قد تُعتبر بداية النهاية في مسار حياة عدي وبيهي، هي عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، إذ قام هذا الأخير بتعيينه سنة 17 دجنبر 1955 عاملا على إقليم تافيلالت، وذلك جزاء له لأن اسمه لم يكن واردا ضمن القواد والأعيان المغاربة الموقعين على وثيقة الموافقة على نفي السلطان، نظرا لأن عدي وبيهي كان متواجدا آنذاك في برشيد كما سبقت الإشارة إلى ذلك، إذ عبرت السلطات المركزية عن رضاها على ما قدمه هذا الرجل للمنطقة وللوطن ككل.
لم يتأقلم عدي وبيهي مع منصبه الجديد ومع المفهوم الجديد للسلطة وللدولة الحديثة، وهنا يقول عبد اللطيف جبرو:” إن عدي كان ذو عقلية قبلية صِرفة، وكان يرفض تعيين السلطة المركزية لقواد أو قضاة في منطقة نفوذه، بل إنه يرفض بشدة أن تفرض حكومة الإستقلاليين مسؤولين في تراب الإقليم الذي يرأسه”.
ويؤكد أحد أقارب عدي وبيهي أن الأخير، وتعبيرا منه على هذا الرفض “كان كلما تم تعيين مسؤول بمنطقة نفوذه، يقوم بحبسه في زريبة المواشي أو في خم الدجاج أو في الحمام ليلة كاملة قبل أن يرسله من حيث أتى”، فاستمر على هذا الحال رافضا منطق الخضوع نظرا لتشبعه بالنزعة القبلية. وحين توجه الملك محمد الخامس إلى إيطاليا بعد أن نصّب مولاي الحسن وليا للعهد وكلفه بتسيير شؤون البلاد في غيابه، أعلن عدي تمرده وضاعف سياسة القطيعة مع الدولة في الثامن عشر من يناير سنة 1957، فأرسل ولي العهد في بادئ الأمر كلا من حسن اليوسي و الفقيه بلعربي العلوي للتحاور معه لكن دون نتيجة، ثم أرسل الجنرال الكتاني ومحمد العواد من أجل الإستسلام مقابل الأمان وهنا سقط عدي وبيهي، حيث شرح محامي عائلة المهدي بنبركة موريس بيتان ذلك في كتابه “الحسن الثاني، دوغول، بنبركة”، بالقول:” إنه تم إخبار عدي وبيهي بأن ولي العهد يريد الحديث معه في القصر وهو الأمر الذي استجاب له دون تردد غير أن تلك لم تكن سوى مصيدة لاعتقال العامل المثير للجدل والحكم عليه بالإعدام، رغم أنه تم قطع وعد عليه بالأمان”، وهو الأمر الذي وصفه موريس بيتان بـ”المؤامرة من طرف مولاي الحسن”.
وخلال أطوار المحاكمة، فجّر عدي وبيهي مفاجأة مدوية، إذ أكد أن اليوسي (الذي كان مبعوثا لولي العهد) قد أخبره بأنه تم نفي الملك محمد الخامس من طرف الإستقلاليين مرة أخرى وبأن هناك مؤامرة ضد العرش تستوجب تسليح القبائل والتمرد على السلطات المركزية، كما كشف أن اليوسي هو من زوده بالأسلحة. وبعد هذا المعطى الخطير هرب اليوسي إلى اسبانيا دون أن يخضع للمحاكمة بتهمة التآمر على العرش رغم عودته إلى المغرب سنة 1962 حيث وُفِّرت له إقامة بالرباط عاش فيها إلى أن مات.
وضمن المحاكمين في قضية “تمرد عدي وبيهي” أو “تمرد تافيلالت” يوجد موحى أورا، الذي زاره المهدي بنبركة في السجن فكشف له (موحى) عن حقيقة هذا التمرد وعن الخداع الذي تعرض له عدي وبهي، فتم التعجيل بإعدامه مباشرة بعد أن وصل إلى علم النظام بأن لسانه قد باح بأسرار خطيرة للمهدي، ويعتبر القايد موحى أورا الوحيد الذي تم تطبيق إعدامه عقب واقعة “تمرد تافيلالت”.
بقي عدي وبيهي في السجن ثم نُقِل إلى المستشفى بالرباط إلى أن مات مِيتة يكتنفها كثير من الغموض، إذ تفيد الروايات انه توفي حنقا بسبب الخديعة التي تعرض إليها، فيما ترجح رواية أخرى –وفقا لما جاء في كتاب موريس بيتان- بأنه مات مسموما من طرف النظام لإنهاء حقبته، فأقيمت له جنازة مهيبة بمنطقة كراندو بدائرة الريش، حضرها كبار الشخصيات السياسية والمدنية، من بينهم المحجوب أحرضان الذي قال خلال مراسيم التشييع “إذا مات عدي وبيهي، فكلنا عدي وبيهي”، وذلك تعبيرا منه على الرمزية التي يحظى بها وسط السياسيين بمختلف ربوع الوطن.
وفاة عدي وبيهي وإن كانت غامضة، إلا أنها جعلت منه بطلا في نظر الكثيرين من أبناء قبيلته بل لازالت حكايات بطولاته تتناقل بين الأجيال، ونُسِجت حوله قصص من وحي الخيال لوصف قوته وبطولته وحبه لفعل الخير ورفضه للخنوع وطأطأة الرأس، كما نُظِمت من أجله العديد من القصائد الشعرية بالأمازيغية يتم التغني بها في بعض المحافل والتجمعات. هذه الرمزية لازالت أيضا حاضرة إلى يومنا هذا، فعائلة عدي آيت رهو تتمتع الآن بصيت واسع في منطقة وادي زيز بعد أن تقلد أبناؤه وأحفاده مناصب ومسؤوليات كبيرة كالوصول إلى البرلمان أو إلى رئاسة الجماعات القروية عبر الإنتخابات، بل إن الأحفاد – وإلى يومنا هذا- تتم استشارتهم في الأمور التي تتعلق بالشأن المحلي في المنطقة.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.