أخر الاخبار

التاريخ المحاصر ـ 6 ـ .. حرب التحرير الريفية 1921 – 1926

التاريخ المحاصر ـ 6 ـ .. حرب التحرير الريفية 1921 – 1926

التاريخ المحاصر ـ 6 ـ .. حرب التحرير الريفية 1921 – 1926

د.علي الإدريسي

تقدم جريدة هسبريس لقرائها الأوفياء، داخل المغرب وخارجه، كتاب “عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر” لمؤلفه الدكتور علي الإدريسي، في حلقات، خلال شهر رمضان الكريم.

هذا الكتاب، الذي تنشره هسبريس بترخيص من مؤلفه الدكتور علي الإدريسي منجما على حلقات، لقي ترحابا واسعا من قبل القراء المغاربة ولا يزال، إلى درجة أن الطبعتين الأولى والثانية نفدتا من المكتبات والأكشاك؛ بالنظر إلى شجاعة المؤلف في عرض الأحداث، وجرأته في تحليل الوقائع بنزاهة وموضوعية.

الكتاب من أوله إلى آخره اعتمد الوثائق النادرة في التأريخ للزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بأفق وطني يتسع لجميع المواطنين المغاربة، على عكس الطريقة التي “اعتاد عليها أولئك الذين حاولوا احتكار الوطنية وتأميم مستقبل المغرب، والتحكم في مصير أبنائه قرونا أخرى”، يضيف على الإدريسي في تقديم الكتاب.

الحلقة السادسة

حرب التحرير الريفية 1921 – 1926

وقائع وأرقام

إن الحديث عن حرب التحرير والمقاومة التي خاضها المغاربة الريفيون، ما بين 1921 و1926، ضد الاستعمارين الإسباني الفرنسي، لا يمكن استيفاء كل جوانبها، أو الإحاطة بكل عناصرها وأبعادها في فصل من كتاب، هذا من جهة، ومن جهة ثانية بكون المكتبة التاريخية تزخر بمئات المؤلفات والدراسات والأبحاث حول موضوع الحرب التحريرية.

وتجنبا للخوض المتكرر في تفاصيل تلك الحرب، وهي كثيرة، وفي الإشكاليات المنهجية التي اتبعت في التأريخ لها، أو في تقييم أحداثها ووقائعها، وفي المرامي والأهداف التي سعت إليها الكتابات المختلفة المشارب والتوجهات، ارتأينا عرض هذه الحرب باختصار من خلال أرقامها. ولغة الأرقام قد تساعد على إعادة بناء فضاء المعارك وضراوتها ونتائجها؛ واسترجاع الوقائع والأحداث لمعرفة تأثيرها وآثارها في العمل الوطني لاحقا، الذي توج بالاستقلال وباسترجاع السيادة الوطنية.

واقعة الأرض والسكان

وأول ما يتبادر إلى الأذهان السؤال عن مساحة الأرض التي جرت فيها المعارك وعدد ساكنتها؟

يتفق جل الذين كتبوا في هذا الموضوع أن المساحة التي احتلتها إسبانيا بموجب المعاهدات الاستعمارية، بدءا بمؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 وانتهاء باتفاق 1913، هي 5% من مجموع الأراضي المغربية. غير أن هذه المساحة لا تتضمن مساحة المستعمرة الإسبانية في جنوب المغرب آنذاك. ويحدد البعض طول منطقة الحماية الاسبانية ( المنطقة الخليفية) بـ: 360 كلم، وعرضها في أقصى الحالات بـ: 80 كلم. وتقدر مساحة قبيلة أيث وياغر، أو ورياغل، قبيلة محمد بن عبد الكريم الخطابي، بـ: 1027 كلم مربع.

وتراوحت التقديرات الخاصة بسكان منطقة شمال المغرب كلها بين 725 ألف و760 ألف نسمة، وزعم والتر هاريس “W. Harris” الصحافي الإنجليزي الذي كان يقيم بطنجة، أن عدد سكان المنطقة سنة 1926 كان يقدر بـ 357000 نسمة ناطقين بالأمازيغية و369000 نسمة مستعربين.

ويوزع البعض هؤلاء السكان على 66 قبيلة ∗، وهو رقم مخالف لما ذكره الباحث الأنتروبولوجي الأمريكي ك. كون” K. Koon” في بحث أنجزه سنة 1926، حيث ذكر فيه أن عدد القبائل الناطقة بالريفية 18 قبيلة. ∗∗

أما أيث ورياغل، الذين اعتبرهم دافيد هارت” D. Hart” « الطبل الذي يرقص حوله كل الريف»، فقد قدر عدد السكان فيها سنة 1926 بـ 40 ألف نسمة.

في هذه المساحة الجغرافية التي يغلب عليها طابع التضاريس الجبلية جرت وقائع المقاومة المسلحة للاستعمار الإسباني والاستعمار الفرنسي. وقد انطلقت هذه المقاومة المنظمة، والمعروفة اصطلاحا أحيانا بـ” الحرب الريفية” في الأيام الثلاثة الأولى من شهر يونيو 1921 وانتهت يوم 28 مايو 1926 باستسلام قائدها محمد بن عبد الكريم الخطابي للقوات الفرنسية في ترجيست، الواقعة غربي مدينة الحسيمة بـ 75 كلم، في حين كانت بدايتها في ” ادْهَارْ أُوبرَان” الواقع في قبيلة تمسامان على بعد حوالي 50 كلم شرقا من الحسيمة.

موازين القوى وانتصارات أنوال

فكيف كانت موازين القوى بين المجاهدين المقاومين وبين الغزاة الاستعماريين، ومن قاد هذه الحرب من الجانبين، وما هي أهم المعارك والخسائر التي لحقت الأطراف المشارِكة؟

قبل أن تنطلق هذه الحرب قام محمد بن عبد الكريم الخطابي بعمل تعبوي كبير داخل القبائل الريفية، عقب وفاة والده وفاة غامضة، في شهر غشت 1920، وهو يحارب الإسبان في منطقة تفرسيت، الواقعة وسط المسافة بين الحسيمة والناظور، وبعد أن تأكد بأن الإسبان لن يقبلوا بأي حل تفاوضي يؤدي إلى التعاون والاحترام بدل الاحتلال والإذلال. وأدى ذلك العمل التعبوي إلى تأسيس أول قيادة جماعية، بتاريخ 20- 09- 1920، مكونة من 38 شخصية، أغلبهم من أعيان قبيلة أيث ورياغل، وتعاهدوا بأداء اليمين على المصحف، على:

– الدفاع عن الدين والوطن والشرف حتى الموت.

– عدم إثارة الضغائن وعدم اللجوء إلى الثأر مهما تكن الظروف والملابسات.

– الالتزام بتنفيذ الأحكام الشرعية في كل الأحوال.

بعد الاطمئنان إلى المؤاخاة التي بدأت تسود صفوف أيث ورياغل، وإلى تكوين القيادة الجماعية، امتد عمل الائتلاف والمؤاخاة إلى القبيلتين المجاورتين شرقا لأيث ورياغل وهما أيث توزين وتمسامان؛ حيث تم تأسيس مركز المجاهدين المتقدم في هذه الأخيرة، بموقع ” القامث”، وكانت القوات الإسبانية قد احتلت مراكز استراتيجية في هاتين القبيلتين المطلتين على أيث ورياغل استعدادا لاحتلالها، وبذلك سيتم بسط نفوذ إسبانيا على كل المنطقة الشمالية ( الخليفية).

وفي أول يوم من شهر يونيو أو الثالث منه، وفقا لبعض الإخباريين، من سنة 1921 الموافق لـ 24 رمضان 1339ھ ، انطلقت المعارك بهجوم المجاهدين على مركز ” ادهار أوبران”. وكان ذلك الهجوم بداية لمعارك استمرت مدة شهر ونصف الشهر على مثلث ” ادْهَارْ أُوبَرَانْ وإِغْرِيبْنْ وأنوال”، أعقبه انهزام الإسبان في 21 يوليوز 1921، الهزيمة التي عرفت بهزيمة أنوال، والتي كانت لها انعكاساتها الكبيرة على المستقبل السياسي لإسبانيا استمرت عقودا طويلة، وأعطت في المقابل شهرة عالمية للمجاهدين المغاربة وللمغرب المعاصر، تفوق الشهرة التي حصلت في وادي المخازن سنة 1578 المعروفة بمعركة ” الملوك الثلاث”.

المصدر: جرمان عياش، أصول حرب الريف. ( ملحق الخرائط)

كيف حدث ذلك ولم يكن عدد المجاهدين يتجاوز 600 رجل؟ هل كان هناك من يتخيل- مجرد تخيل- أن هذا العدد من المجاهدين سيصمد، وبالأحرى أن ينتصر على الزحف الإسباني الذي كان يتألف من 24000 جندي، بما فيهم 4000 من الأهالي المجندين كمرتزقة. إن الحقائق التي ظهرت بعد 21 يوليوز كانت مدهشة، ولم يسع الحكومة الإسبانية إلا أن تعترف بأنها خسرت 8000 قتيل من جنودها في أنوال. لكن «في الحقيقة كان عدد القتلى يتجاوز ذلك بعدة آلاف»، على حد تعبير المؤرخ الإسباني ميكل مارتين. ويقدر المؤرخ الإنجليزي روبرت فورنو الخسائر الإسبانية في هذه المعركة على الشكل التالي:

– 18000 قتيل، وفي مقدمتهم قائد الحملة الجنرال سيلفيستري ” Silvestre”. (لم يعثر أحد على جثته، كما أنه لم يعثر عليه حيا)

– 1100 أسير، وفي مقدمتهم الجنرال نافارو ” Navaro”.

– غنم 19504 بندقية و352 رشاشا و129 مدفعا، إضافة إلى المواد العسكرية الأخرى كالملابس والخيام والعربات والتغذية.

وعلى مدى خمس سنوات التي استغرقتها الحرب، كانت المعارك بين المجاهدين والمحتلين تكاد تكون يومية. وقد قاد محمد بن عبد الكريم الخطابي، قائد المجاهدين، 300 موقعة بنفسه. وتعد معركة الشاون، التي جرت في أواخر سنة 1924 وأوائل سنة 1925، من أكبر معارك تلك الحرب، بعد معركة أنوال؛ فقد دامت 120 يوما، وأدت إلى مقتل 20 ألف جندي إسباني، وإلى خسائر كبرى في العتاد، حسب تقديرات مؤرخ إسباني.

وفي المقابل تفيد شهادة ضابط إسباني، أوردها المؤرخ الإنجليزي روبيرت فورنو، أن خسائر المغاربة كانت تساوي 1 على 30 قتيل إسباني، ثم يورد الحصيلة النهائية للخسائر الإسبانية على الشكل التالي:

– جنرال واحد وستة عقداء وثمانية رواد.

– 175 ضابطا من الرتب الأخرى.

– 17000 جندي. ونلاحظ أن العدد الذي يورده يقل بـ 3000 عن العدد الذي أورده المؤرخ الإسباني!

– أما الجرحى من الضباط فبلغ 600 جريح.

عقيدة الاستعمار وانتصارات حرب التحرير

ومن نتائج هذه المعركة أنها حققت «سيطرة عبد الكريم التامة على شمال المغرب، باستثناء الحصون العسكرية الصغيرة في سبتة ومليلة والعرائش وطنجة.»

وكانت تصريحات بريمو دي ريفيرا Primo De Rivera، ديكتاتور ورئيس الحكومة الإسبانية، تؤكد هذا الواقع الجديد على الأرض، حين أدلى لصحافي إنجليزي بما يلي: «لقد هزمَنا عبد الكريم، إنه يحظى بالفوائد الكبرى لأرض المعركة، ويستفيد من تعصب أنصاره، في حين أن جنودنا منهكون بحرب دامت عدة سنوات، إنهم لا يدركون سبب ضرورة الكفاح والموت من أجل بقعة من الأرض ليست لها أي قيمة، وأنا شخصيا من مؤيدي الانسحاب التام من إفريقيا، والسماح لعبد الكريم بوضع اليد على ممتلكاته. لقد صرفنا ملايين لا تحصى من البسيطة في هذا المشروع دون أن نستلم أبدا سنتيما واحدا، ومات عشرات الآلاف من الرجال من أجل أرض غير صالحة ولا فائدة من حيازتها.»

بعد أشهر من سيطرة المجاهدين على منطقة الشمال، وبعد أقل من شهرين على تصريح بريمو دي ريفيرا، اندلعت المعارك بين المجاهدين والقوات الفرنسية في منطقة ورغة العليا، فهل كانت تلك المعارك نجدة فرنسية لإسبانيا قصد “صيانة الشرف” الاستعماري؟ أم أن عبد الكريم الخطابي، قائد المجاهدين، قرر خوض الحرب ضد فرنسا استكمالا لمشروعه في تحرير كل المغرب من أجدير إلى أكادير، وفقا لعبارة كان يرددها بكثرة الدكتور عمر الخطابي ؟

مهما تكن مسوغات عبد الكريم، فإن فرنسا ادعت أن انتصار عبد الكريم سيشكل «تهديدا خطيرا للحضارة والسلام في الغرب»، بل إن ماريشال فرنسا ليوطي رفع تقريرا إلى رؤسائه في باريس، جاء فيه: «لا يمكن أن يكون هنالك شيء أسوأ بالنسبة إلى نظامنا من إقامة دولة إسلامية مستقلة… دولة تجعل من عبد الكريم مركز جذب… لجميع العناصر المغربية، وعلى الأخص الشباب منهم.»

اندلعت المعارك، إذن، بين المجاهدين والقوات الفرنسية وسقط خلال خمسة أيام فقط «قرابة خمسين مركزا من مراكز الفرنسيين الواقعة في منطقة قبائل بني زروال في أيدي رجال هذه القبائل، أو حوصرت حصارا شديدا.» وبعد أكثر من شهرين من القتال؛ أي من شهر أبريل إلى 04 يونيو 1925 سقط المركز العسكري الفرنسي المعروف بـ”البيبان” في أيدي المقاومين المغاربة، بعد حصار دام 52 يوما، وبعد سبعة أيام من سقوط ” البيبان” سقطت قلعة بني دركول. ونقرأ جزءا من رسالة بعث بها قائد هذه القلعة إلى قائد المجموعة المتحركة، يصف فيها وضع القلعة يوم 9 يونيو 1925، أي قبل سقوطها بثلاثة أيام، جاء فيه: «لم يبق منا غير أحد عشر جنديا، ذخيرتنا إحدى عشرة بندقية، ومائة وعشرون قنبلة يدوية، وعشرون ألف خرطوشة، ومدفع واحد مزود بسبع مائة طلقة. إن حلقة الريفيين تزداد ضيقا حولنا وهم يحفرون خنادق جديدة. إني لأخشى وقوع قتال بالسلاح الأبيض، كما أخشى أكثر من ذلك أن تضربنا مدفعيتهم بقذائفها، سوف تكفينا المياه حتى اليوم الرابع عشر من الشهر بالضبط. إنه من الضروري أن تنقذونا قبل الثالث عشر من الشهر على أبعد تقدير.»

وجاء الجواب يوم 12 يونيو يقول: «اصمدوا حتى السادس عشر من الشهر، لأن العمليات الجارية لا تسمح بإعانتكم قبل هذا التاريخ.»

لكن يبدو أن تكهن قائد القلعة كان في محله، فقد سقطت القلعة في اليوم الرابع عشر كما توقع. وكان الجيش الذي عجز عن فك الحصار عن قلعة بني دركول يتكون من 60000 رجل برئاسة ماريشال فرنسا ليوطي ” Lyautey”. وأدت هذه الهزيمة إلى استبدال ليوطي بمقيم عام جديد هو ستيك “Steeg”، وبقائد جديد للجيش في المغرب هو الماريشال بيتان “Petain”.

Ramadan1439
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -