أخر الاخبار

في تاريخ تازة


في تاريخ تازة

عبد الهادي التازي

لقد اشتهر في التاريخ أن إمبراطورية الخليفة هارون الرشيد كانت تمتد شرقا وغربا بحيث يمكن القول، باصطلاح العصر الحديث، أن الشمس لا تغرب على راية "العباسيين" !.

وقد حدث أن أصيبت أرض العراق بجفاف توالى وطال، وظلت البلاد معه تعاني المتاعب والمصاعب.

وذات يوم ظهرت سحابة كثيفة في سماء بغداد، وفرح الناس وابتهجوا وصعد الخليفة هارون الرشيد إلى أعلى القصر ليتمتع بمنظر المطر يسقي الأرض بعد طول غياب، ولكنه ما لبث أن رأى السحابة تمضي في طريقها من دون ما أن تتفجر على سماء دجلة، وحينئذ غضب الخليفة ! وتوجه إلى السحابة يخاطبها ساخرا :
" أيتها السحابة، اذهبي أتي شئت فإن خراجك راجع إلى " !

يعني أنه مهما يكن المكان الذي ستنتهي إليه فإنه تابع له وراجع إليه، ولابد أن يصله نصيبه من تلك السحابة أما محاصيل وإما ضرائب !
تعمدت أن أذكر بهذه القصة لأذكر في نفس الوقت أن هارون الرشيد عندما كان يقول ذلك للسحابة، كان يشعر في قرارة نفسه بحسرة وأسى لأنه كان يعلم أن هناك أمة واحدة من أمم الدنيا بقيت خارجة عن نطاق حكمه ومنطقة نفوذه، ولم تكن هذه الأمة غير دولة المغرب الأقصى التي استطاعت أن توطد لها حكما في هذه الديار بعيدا عن هيمنة بغداد !  

ومن أجل هذا لا نستبعد المؤامرة الرخيصة التي أوعز بها البرامكة للخليفة هارون الرشيد، تلك المؤامرة التي استهدفت حياة الإمام إدريس الأكبر، لا لشيء إلا لأنه عقد العزم على إرضاء سكان الديار المغربية الذين كانوا يرغبون في وضع اللبنات الأولى لدولة مستقلة...

وبالرغم مما أظهره الأدارسة من صمود وتحدي فإنهم أصبحوا هدفا لأطماع الفاطميين في القيروان والمروانيين في قرطبة.
وبهذا نفسر وجود ما يسمى بالحلف بين قادة تازة وقادة القيروان في أواخر أيام الدولة الإدريسية.

أقول ما سمى " حلفا"، ولا أقول تحالفا، لأننا جميعا نعلم أن نفوذ الفاطميين على ذلك العهد كان أقوى بكثير من نفوذ مكناسة، ولذلك فإنه إذ كان هناك " حلف" فهو حلف ضعيف لقوي، واتفاقية متسلط على متسلط عليه، أو بالتعبير الذي استعمله الغرب : " الاتفاقيات السبعية".    

وإلا فما كنا نتصور إطلاقا أن (تازة) التي صحبت ركب الإمام إدريس – وهو من أعلام السنة- حتى مشارف تلمسان لتفتح ولتبني ولتشيد، تتراجع بعد مدة قليلة لتحالف الفاطميين لشيعة، وإلا فما كنا نتصور إطلاقا أن تازة عاصمة داود بن إدريس ... التي كانت وراءه أيضا في زحفة على خصومه السياسيين بفاس، ما كنا نتصور أنها تنسى صحبة أهل السنة !! وأن الذي يدل دلالة قوية وواضحة على ما تقول هو أن قادة تازة، لما أتيحت لهم الفرصة للإفلات من قبضة الفاطميين... استقلوا عن الحكم كما كانوا يؤملون، أ حالفوا الأمويين في الأندلس ؟ إذ لم يعد في استطاعتهم أن يحافظوا على ذلك الحياد الذي كانوا ينشدونه ! 

ومن يدري لعل تحرك المرابطين من صحراء المغرب كان بدافع جعل حد لتلك التدخلات الخارجية، سواء أكان ماتاها من الشرق أو من الشمال، لعل تحركهم من صحراء المغرب كان بدافع الرغبة في العودة إلى الشعار الذي رفعه آل إدريس.. " المغرب للمغاربة".
لا أقصد بهذا الكلام أن المغرب باستقلاله عن الخلافة في المشرق وبمقاومته لتبعية الفاطميين في القيروان، وللمروانيين في الأندلس، كان يترجم عن روح أنانية أو انفصالية عن العالم الإسلامي ! أبدا... فإن المغرب منذ كان وهو يعتبر نفسه من صميم ذلك العالم وإليه ينتسب، ولكن المغرب كان يعرف أن تلك التبعية ستلحق به ضررا فادحا، نظرا من جهة لبعد الإدارة المركزية، ومن جهة أخر فقد أصبحت أركان الامبراطورية في المشرق تنهار باستمرار.

فبقاء المغرب على هذا الوضع الذي اختاره لنفسه هو الذي مكنه من الحفاظ على اللغة العربية صافية الأديم، وإلا لكان اليوم على نحو ما سمع عن بعض البلاد التائيه في آسيا مثلا ممن تعتنق الإسلام ولكنها لا تعرف شيئا عن لغة القرءان.
لقد تحرك المرابطون من صحراء المغرب... واتجهوا نحو تازة لأنهم يغرفون أنها البوغاز البري الوحيد الذي سيوقف زحف الطامعين في التسلط على البلاد...

إن المرابطين قاموا، كما نعلم جميعا، على مبدأ أهل السنة.. ولذلك فإنهم لا يحرصون فقط على وحدة سياسية للتراب، ولكن على وحدة مذهبية كذلك !

وحيث أن موقف تازة من الفاطميين كان على ما علمنا أي أن حلفهم إنما كان موقوتا وبدافع مصلحة آنية، فقد وضعت المدينة يدها في يد المرابطين لتستأنف المسيرة التي دشنتها مع الإمام إدريس ومع إبنه الإمام داود ابن إدريس...

وإذا كان الزمن قد عفى على معظم آثار المرابطين في تازة فإنه لم يستطع أن يقضي على آثار الموحدين التي ما تزال فيها شامخة...
لقد أصبحت تازة عاصمة بالفعل للموحدين، إن لم تكن طيلة السنة فهي على الأقل كذلك، في بعض الفترات من حياتها ...
ليس فقط لأن تازة ذات مناخ معتدل وهواء عليل ولكن لموقعها الاستراتيجي إلهام باعتبارها الترس، باعتبارها المعقل، باعتبارها البرج الذي يضبط صلة الشرق بالغرب والجنوب بالشمال.

ولعلي لست بحاجة إلى أن أؤكد على الأسباب التي كانت وراء اهتمام المملكة المغربية وخاصة الدولة الموحدية بهذه المدينة.
فإن الأمر كان يتعلق بتصميم الدولة على القضاء على الحركات الانفصالية التي ظهرت في باقي الأطراف الشرقية للمغرب الكبير...
ولقد كان في الإمكان أن تبقى أجزاء الامبراطورية الموحدية كما كانت عليه في البداية، لولا الحادثة التي قصمت ظهر الناصر الموحدي في الأندلس أعني بها موقعة العقاب سنة 609هـ - 1209 م التي لم يكن الناصر يخامره شك في كسبها بعد أن اهتزت جميع بلاد الفرنج لجوازه للأندلس حيث سمعنا ببعثة الملك جوهن ملك إنجلترا الذي عرض إسلام بلاده على الخليفة الناصر  

فعلى أثر هذه الوقعة ظهرت الحركات الانفصالية في أقطار الشمال الإفريقي الذي كان إلى الأمس القريب يأتمر مراكش وينتهي بنهي مراكش !! 

ظهرت حركة اشقاق في تونس عام 625 هـ - 1228 م حيث رأينا نظاما يقوم تحت اسم الدولة الحفصية ... ثم رأينا حكما آخر يظهر في الجزائر تحت اسم دولة بني عبد الواد...

لن يكون حديثي اليوم عما أحدثه ذلك الانفصال من نكسات في شتى ميادين الحياة، ولكني اليوم بصدد اختصار القول بأن العناصر الأجنبية والميليشيات المسيحية من شتى الجهات، كانت تشجعه، حيث أنها وجدت في ذلك الانفصال الثغرة التي كانوا يصلون بواسطتها إلى إشغال المسلمين هنا وهناك، عن مساعدة إخوانهم بالأندلس...

وإما في إعلام أشخاص أجانب عن البلاد، وأما في تواريخ .. وكلها شاهدة على أن هذه الأقطار المفككة أصبحت أدوات في يد الأجنبي يصرفها كما يشاء وكيف يشاء، وفي الوقت الذي يشاء !

إنني لأم أعد أكترث بما يقوله المؤرخون القدامى عن يعقوب بن عبد الحق ويغمراسن بن زيان بعد أن أدركت واقتنعت – وستدركون وتقتنعون مثلي – بأن هناك عناصر خارجية كانت وراء تصلب ذاك وموقف هذا ..
فبعد ذاك الصدام الذي حدث أيام الخليفة الموحدي أبي الحسن علي إبن إدريس الملقب بالسعيد في صفر 646 – يونيه 1228 حيث سطا بنو عبد الواد على مصحف عثمان بعد مصرع الخليفة الذي دفن على مقربة من ضريح أبي مدين الغوث، دعونا... نسمع عن تلك الاحتدامات والاصطدمات الجديدة التي كانت المنطقة الشرقية مسرحا لها في الفترات الأولى من عهد بني مرين...
وهنا ... سنرى الأسباب واضحة أكثر في الالتفات إلى هذه المدينة العظيمو (تازة) التي فرضت نفسها فرضا على كل الواردين والصادرين من المشرق والمغرب...
لقد توجه إليها بنو مرين بنفس العناية والحماس الذي توجهوا به إلى عاصمتهم فاس، بل أنهم اتخذوا من تازة مدرسة لفلذات أكبادهم وقاعدة للأمراء وكبار رجال الدولة...
لقد بلغت تازة في العهد المريني ما لم تبلغه معظم المدن في المغرب الأقصى... لنتتبع أحد الرحالة المغاربة المشهورين : ابن بطوطة وهو في طريق عودته إلى بلاده بعد زهاء ربع قرن من الغياب، يحكي سطرا واحدا عن تازة، ولكنه كان في نظري ذا دلالة واضحة على مركز تازة في الدولة، وعلى انها لا تقل عن أية عاصمة أخرى تستقطب الأخبار وتجتمع عندها عيون النباء...
إن ابن بطوطة، كما تعلمون، عند عبوره على تازة فضل أن لا يختار طريقه من تلمسان عبر واحة فجيج و ( المنكوب)، ولا كذلك عبر (وحدة) التي كانت تعاني تلك الأيام من محنة الحروب التي كانت تصدم بين بني مرين وبني عمهم بني عبد الواد ! ولكنه فضل أن يأخذ طريق الشمال، وهكذا اتجه من تلمسان إلى ندرومة وسلك الذي  الساحل حتى وصل إلى (أرغنغن) جنوب ما نسميه اليوم بالناظور...
ومن هنا نزل إلى تازة : قال ابن بطوطة : " ووصلت إلى مدينة تازا وبها تعرفت خبر موت والدتي بالوباء".
كانت هذه الجملة عندي كافية لمعرفة الحركة والروجان الذي تعيشه المدينة من حيث استقطابها لأخبار الناس بواسطة المجاهدين الذين تقاطروا عليها في طريقهم إلى المغرب الشرقي ، كانت تلك العبارة كافية من حيث دلالتها على أن الدولة كانت تقوم بجرد لإحصاء سائر الشهداء الذين راحوا ضحية الوباء العام الذي غزا المغرب عن طريق البحر المتوسط عام 749 ÷ت – 1348 م ، هذا خبر قد نمر عليه مرورا .. ولكنه كما نرى ذو دلالة رفيعة قوية :
ولم تكن المدينة ( محطة أخبار وإعلام) فقط، ولكنها مركز إشعاع ثقافي وعلمي وحضاري. وفي الحوالات الوقفية انعكاس لأخبار تازة ونشاطها العلمي والثقافي، في المعامل والمصانع التي كانت تحتضنها من دباغة وصباغة، وسبك النحاس والزجاج والورق، ونحن نعلم عن المثل المغربي السائر الذي يضرب (بصابون تازة !) والذي يعبر عن جانب من جوانب اهتمامات المدينة، بمعنى صناعة الصابون التي تعتبر من أبرز الدلالات الحضارية... كراسي العلم – الخزانات العلمية، المدارس الطلابية، أحاديث الناس بعضهم بعضا كانت تعكس هي الأخرى درجة ثقافة الناس..
لقد كانت تازة بذلك في صدر القواعد الثقافية الكبرى للمغرب مثل فاس وسبتة ومراكش وسلا ومكناس.. بل كما رأيناه مثلا بالنسبة للقاضي عياض الذي اضطهده الموحدون ... والذي وجدانا خزانة المسجد الأعظم بتازة تنشأ برسم حفظ كتابه " الشفا" .. !
هذه تازة التي أصبحنا نرى عدد من رجالات العلم والقلم ينتسبون إليها .. حيث أصبحوا يكونون مع فاس جبهة واحدة، إن صح التعبير، لمنافسة علماء الشرق...
وهل سمعنا بشخصية عسكرية مغربية لعبت دور دوليا في تاريخ العصر الوسيط وتبوات منصب رئيس دار الصناعة الحربية بالإسكندرية ؟
لقد كانت هذه الشخصية المشار إليها هي الرايس إبراهيم التازي الذي يحكي عنه تاريخ مصر : "إنه استقبل من لدن السلطان الملك الأشرف شعبان 767  - 1368 رسالة سلطان مصر هل ماذا كان يستطيع فتح قبرص ؟..
هذا هو إبراهيم التازي الذي خلص مصر من الاحتلال واحتفلت به الاسكندرية في يوم مشهود من تاريخ مصر.. لقد قامت عنه مخطوطة (الالمام) المحفوظة بدار الكتب المصرية :
" وفي يوم الخميس الرابع والعشرين من شعبان سنة تسع وستين وسبعمائة (14 أبريل 1368) قدم الرايس التازي من جزر الافرنج (قبرس) إلى الاسكندرية بأسارى النصارى ... فأرتجت لقدومه وماجت بأهلها ساعة وروده فخرج أهلها منها إلى موضع منارتها ... والمسلمون بالساحل يضجون بالتكبير للعلي القدير ولم تبق مخدرة إلا خرجت من خدرها ولا مصونة إلى برزت من كنها... وكان وصول التازي إلى لمينة ضحى نهار، فزغزغت له الاحرار والجواري فدخل الاسكندرية على فرس عربية على رأسه طرطور يقال له بلغة الافرنج كسترا (Castora) وعلى بدنه (Veston) محتزم عليه بحياصة جلد معلق بها خنجر مجوهر. وكان من خلف فرس الرايس المذكور أسارى الفرنج..."
وهكذا فإن الرايس إبراهيم لم يكن إلا مغربيا ينتسب إلى : الموقع الذي كان يعرف في القديم باسم (الرباط) ... إن الرباط إذا أطلق بالنسبة للمؤرخين كان لا يعني غير تازة، وليس ما يسمى رباط الفتح ... لنقرأ في رحلة ابن فكون هذا البيت :
وحل رشا الرباط رشا رباطي وتيمني بطرف بابلي
وهل سمعنا بشخصية دبلوماسية ضربت المثل في علمها وفي حصافة رأيها وفي أناقتها وفي استقطابها لصفات الخير والنبل أكثر مما سمعنا عن إبراهيم التازي الذي قال عنه المقري في نفح الطيب : " لقد اجتمع إليه الطلبة والعلماء لما ورد سفيرا على الأندلس من قبل السلطان أبي الحسن وأخذ الناس عنه في غرناطة وحكوا عنه أنه كان تام السراوة حسن العهد مليح المجلس، أنيق المحاضرة، كريم الطبع صحيح المذهب... ثم هل سمعنا بشخصية صوفية حلقت في سماء المعرفة كشخصية إبراهيم التازي الذي تنسب إليه الصلاة التازية...
ولنترك استعراض الشخصيات لأنه يطول ويصول ويجول. ولنقرأ إفادة ابن الوزان المعروف بليون الافريقي الذي أشاد كبرى بعد سكان المدينة وبمكانتها في الحضارة والأصالة. وتحدث عن جامعها الذي قال عنه : إنه أكبر من جامع فاس ! وأن بالمدينة طائفة من المدارس والفنادق والحمامات الكثيرة .. وقد وصف بأهلها بالشجاعة والشهامة وكرم النفس .. وبما أن ليون الافريقي كان يقدم تازة للإيطاليين فإنه لم يفته أن يشيد بعنبها المتنوع الألوان : الأبيض والأحمر والأسود الذي تعصر منه الخمور المختلفة الأشكال !   
وقد قرأت عن تازة في مخطوطة نادرة يوجد أصلها بخزانة جامعة القرويين وتوجد نسخة منها بالخزانة الحسنية.
ويتعلق الأمر بمذكرات الوزير الإسحاقي التي كنت نشرت منها الجانب الخاص بطرابلس (ليبيا) .. لقد تناولت هذه المعركة رحلة الأميرة لالة ختاثة زوجة السلطان مولاي اسماعيل وأم السلطان مولاي عبد الله وجدة ولي العهد سيدي محمد بن عبد الله : رحلتها إلى الديار المشرقي والحجازية.
ويجب أن تعرف قبل شيء أن هذا الوزير لم يمر بمدينة لو قرية دون أن يعطي عنها إنطباعه مهما كان ذلك الانطباع حتى ولو اغضب أصحاب تلك القرية أو ذلك المدينة...
لنستمع إليه مثلا يقول عن تازة :
"... وزرناها فإذا هي مدينة آخذه من الحضارة بطرف، وحصن حصين من المعاقل التي تعقل بها أثر الحسن القديم، وإذا بها جامع كأحسن ما أنت من الجوامع سعة وحصانة وبناء، متقنا محكم الشكل، ولها صحن واسع بهي المنظر، ومقصورة فيها عمل عجيب بتخريم الجبص وتنميقه وتقربصه في غاية ما يكون من الإتقان والاحسان وأحكام الصنعة والإمعان وتلاحقه مدرسة عجيبة مكتوب على بابها (مما لم يبق له أثر اليوم !).
لعمرك ما مثلي بشرق ومغرب يفوق المباني حسن منظري الحسن
بناني لدرس العلم مبتغيا بــه ثوابا من الله الأمير أبي الحسن !

ورأيت (يقول الاسحاقي) به الثريا العجيبة التي يضرب بها المثل في قلة النظير، ويذكر الناس أها لا شبيه لها في الثريات، فإذا هي عنقود عظيم مرصع بمراكز القناديل ترصيعا محكم الصنعة في غاية الضخامة، متماسك في الهواء بسلسلة من النحاس، يتعجب الناظر من هيئة الثريا وتماسكها، بها مكتوب :
يا ناظرا في جمالي حقق الظرا ومتع الطرف في حسني الذي بهرا
أنا لثريا التي تازا بها افتخرت على البلاد فما مثلي الزمان يرى !!

وبعدا هذا يتحدث الاسحاقي عن الخزانة العلمية التي كانت بقبلى المسجد الأعظم على يسار المحراب من المدينة المذكورة والتي أنشئت برسم إذاعة كتاب الشفا للقاضي عياض على ما سلفت الإشارة إليه. ويفيدنا أنه كان منقوشا على هذه الخزانة هذه الأبيات الشعرية التي لم نجد لها أثرا كذلك فيما تبقى من معالم وملامح، وهذه الأبيات هي :
لي منزل بين الخزائن شامخ قد خص من بيت الالاه بمنزل حفظا لمجموع الشفا أنشئت عن أمر الخليفة فـارس المتوكـل في عام سبع بعد خمسين انقضت ومئين سبـع في ربيـع الأول وبالمسجد الجامع من المدينة المذكورة منبر عجيب، حسن المنظر محكم الصنعة، رصع بالعاج والابنوس ترصيعا غريب الصنعة، والكل، يقول الاسحاقي، من عمل الملوك بني مرين...
            
لكن قبل أن أسترسل في استعراض حضارة ومعالم تازة، هيا بنا إلى الساحة الأخرى ساحة النضال... التي كانت تازة تبدو فيها عنيفة قوية وهي تدافع عن هويتها الإسلامية، هل ينسى التاريخ أن تازة هي التي انتبهت أول من انتبه للخطر الذي كان يهدد العالم الإسلامي قبل أربعة قرون من إنشاء الكيان الصهيوني اليوم، وماذا تعني حادثة ابن مشعل الذي كان يعتزم إنشاء كيانا يهوديا في الإقليم ! 
سوف لا أسترسل في حديثي عن هذه المحاولة التي أقبرها السلطان مولاي رشيد رحمه الله، فإن قصدي كان هو إثارة الانتباه إلى دور هذه المدينة الصامدة في مقاومة الدخلاء، دورها في الحفاظ على الكيان المغربي.

إن تازة لا تعد فقط اسما لمدينة بل علما على رباط جهاد تحطمت على أبوابه سائر المناورات، علما لمركز علم قوي ساهم في صنع رجال الفكر، رمزا لمدرسة صنعت السياسيين والدبلوماسيين، علما لتاريخ حافل بالمواقف الشريفة التي اتخذتها في سبيل الحفاظ على وحدة المغرب ليس فقط، وحدة ترابه الذي نمشي عليه ولكن وحدة ترابه الروحي المتجلي في وحدة المذهب والعقيدة...

تلك هي تازة، وإن على أبنائها اليوم أن يقوموا بكتابة تاريخها في شتى الميادين، إن عليهم وحدهم تقع تبعة التعريف بهذه الماسة التي نسميها تازة.. !
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -