كانت دائمة ملتصقة بالظاهرة السياسية. فضرب السكة وإصدار العملة شكلا دائما مظهرا من مظاهر السلطة السياسية بالمغرب وتجليا من تجلياتها الرمزية. فقد أظهرت بعض القطع النقدية القديمة صور الملوك المغاربة القدامى وهم يتسلمون شارات الملك من ممثلي روما. وفي هذا الإطار عثر على بعض القطع النقدية سكت في سنتي 39-38 ق م، "تظهر صورة للملك بطليموس وهو جالس على عرشه وفوق رأسه تاج وبين يديه صولجان من العاج". كما عثر على بعض القطع النقدية التي تظهر الملك جوبا الثاني وهو يتلفع بجلد أسد.
وبالتالي، فالعملة، بما فيها الدرهم، تشكل قناة من قنوات نقل الرمزية السياسية للسلطة وآلية من آليات شرعنتها السياسية.
1- الدرهم كرمز للسيادة الوطنية
إن ضرب السكة بالمغرب ارتبط دائما بتعاقب الأسر الحاكمة للبلاد ومظهرا من مظاهر بسط سلطتهم عليها. فقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى أن السكة تعتبر من بين شارات الملك إلى جانب الآلة، السرير، والخاتم، والطراز، والفسطاط، ومقصورة الصلاة. فقد ظهرت السكة بالمغرب، على حد قوله، مع الموحدين؛ حيث "لما جاءت دولة الموحدين كان مما سن لهم المهدي اتخاذ سكة الدرهم مربع الشكل وأن يرسم في دائرة الدينار شكل مربع في وسطه ويملأ في أحد الجانبين تهليلا وتحميدا ومن الجانب الآخر كتبا في السطور باسمه واسم الخلفاء من بعده".
وقد واصل الأمراء والسلاطين المغاربة بعد الموحدين ضرب السكة دلالة على توليهم الحكم وانفرادهم بالسلطة في البلاد. فكما يتم الدعاء للسلطان من أعلى المنابر كل جمعة كتجسيد للسلطة المركزية بالبلاد، يكون تداول النقد من دراهم ودنانير وغيرها تكريسا لسيادة للسلطان الشرعي على البلاد. لكن إلى جانب هذا البعد السياسي، كان سك عملة الدرهم بالمغرب يحمل في طياته التأكيد على رمزية استقلال المغرب.
فسك المولى إدريس الأول للدرهم كان يحمل دلالة الانفصال عن الإمبراطورية الأموية أو العباسية والاستقلال عنها ليس فقط سياسيا، بل أيضا نقديا. ولعل ما يؤكد هذا المنحى هو ما ذكره الباحث عبد العزيز بن عبد الله من "أنه عثر في مدينة وليلي على ستة دراهم سكت في (واسط)، وهو مقر الحجاج بين البصرة والكوفة، سنة 713م. ودراهم ضربت سنة 737م وأخرى على نوعين ضربت سنة 787م، ودراهم سكت باسم خلف بن الماضي سنة 791م وأخرى باسم المولى إدريس سنة 799م. وبالعثور على درهم المولى إدريس، يتأكد أن المغرب الأقصى هو أول بلد في المغرب العربي والأندلس سك الدراهم."
ولعل هذا ما جعل الأمراء والسلاطين يحرصون على الحفاظ على هذه الاستقلالية ليس فقط بحد السيف، بل أيضا بإصدار هذه العملة المغربية لتداولها داخل البلاد كعملة رسمية خاصة مع تزايد الأطماع الاستعمارية الأوربية في بداية القرن 19. وهكذا ذكر الناصري في "الاستقصاء" أن المولى محمد بن عبد الرحمن "أمر بضرب الدرهم سنة 1868م وأمر بالاعتماد عليه وحده في المعاملات والأنكحة والعقود، وأرجعه إلى أصله الذي أسسه سلفه وقيمته عشرة دراهم في المثقال، وكان السلطان المغربي محمد بن عبد الرحمن يعاقب كل من خالف ذلك".
وقد واصل السلطان الحسن الأول، في إطار تجنيب البلاد مخاطر التغلغل الاستعماري الأوربي والحفاظ على سيادته، ضرب "الدرهم الحسني" أو "الحسني".
ولضرب مقومات هذه السيادة، ركزت الدول الأوربية في البداية على ضرب المناحي المالية والنقدية فيها من خلال توريط المولى عبد العزيز في استدانة مالية مكلفة انتهت برهن عائدات البلاد الجمركية، وفي الوقت نفسه عملت على بسط يدها على دار السكة المخزنية؛ حيث تم بموجب اتفاقية الجزيرة الخضراء المبرمة في 7 أبريل 1906 من قِبَلِ مندوبي اثنتي عشرة دولة أوروبية بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب، إحداث البنك المخزني المغربي الذي اتخذ شكل شركة مساهمة مقرّها الرئيسي بطنجة، برأسمال موزّع على الدّول الموقعة على الاتفاقية باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية. لكن فرنسا، في إطار سياستها لبسط نفوذها على المغرب وضمه إلى محمياتها بشمال إفريقيا، عملت بعد تفويت بعض الدول لحصصها على الحصول على الجزء الأكبر من رأسمال هذا البنك.
وهكذا، تم استخدام هذا البنك لضرب الاستقلال المالي للمغرب، وربط الدرهم الحسني بالفرنك الفرنسي بشكل تدريجي. فقد تولّى البنك المخزني المغربي سك القطع النقدية الفضّية من فئة "الحسني" وإصدار أولى الأوراق البنكية. لكن بعد استحالة الحفاظ على سِعر تكافؤ إجباري بين العملة الحسنية والعملة الفرنسية، أقدم البنك المخزني المغربي في أكتوبر 1919 على توقيف سِعر التكافؤ بين هاتين العملتين؛ حيث تقرّر في مارس 1920 إلغاء عملة "الحسني" وتعويضها بأوراق بنكية وقطع نقدية بالفرنك المغربي الذي تمّ تحديد سِعر تكافئه مع الفرنك الفرنسي ابتداء من دجنبر 1921 عبر ما كان يدعى بحساب "العمليات". فدخل المغرب، لأول مرة في تاريخه، ضمن عملة أجنبية وهي عملة استعمارية موحدة بين أقطار ما وراء البحار الخاضعة للنفوذ الفرنسي.
وبالتالي فقد كان من أهم خطوات استعادة المغرب لسيادته، شروع حكومة عبد الله إبراهيم منذ سنة 1958 في إجراء مفاوضات بين الحكومة المغربية وفرنسا والبنك المخزني المغربي قصد استرجاع المغرب لامتياز الإصدار. وهكذا، تمّ في فاتح يوليوز 1959 "إحداث معهد إصدار وطني صرف يحمل اسم "بنك المغرب" بموجب الظهير الشريف رقم 233-59-1 المؤرخ في 23 ذي الحجة 1378 (موافق 30 يونيو 1959)، وذلك ليحلّ محلّ "البنك المخزني المغربي" الذي توقّف نشاطه بصفة رسمية. ليتم في أكتوبر من السنة نفسها إحداث الدرهم كوحدة نقدية جديدة لفك الارتباط والتبعية للإمبراطورية الفرنسية في عملية تذكر بضرب المولى إدريس للدرهم كدلالة سياسية على استقلال البلاد عن الإمبراطورية العباسية.
2- الدرهم كآلية للشرعنة السياسية
إن النقد لا يعتبر أداة لنقل الثروة وتلبية الحاجيات، بل هو في العمق آلية لنقل مظاهر السلطة وشارة من شارات الملك، على حد قول ابن خلدون. وبالتالي، تشكل العملة بالمغرب آلية من آليات الشرعنة السياسية من خلال رمزية الاستمرارية ورمزية الاحتفالية وآلية من آليات التنشئة السياسية.
- الدرهم كآلية للتنشئة السياسية
إن تداول العملة بما تحمله من رموز وما تتميز به من ألوان وأشكال هو قبل كل شيء أداة للتنشئة السياسية تكرس في الأذهان تجسيدا للسلطة القائمة؛ حيث تعتبر العملة من بين أشكال العنف الرمزي، كما أشار إلى ذلك أكليتا. فالنقود، وخاصة الدرهم، بما تجسده من صور ملكية تلعب دورا أساسيا في ترسيخ صورة الملك في أذهان الأطفال بمختلف شرائحهم الاجتماعية ومنحدراتهم الإقليمية.
فبخلاف صور الملك المعلقة بفصول الأقسام التي تقتصر على الأطفال التلاميذ، تنقل العملة من خلال تداولها في أيدي الأطفال منذ نعومة أظافرهم صورة الشخصية السياسية المحورية بالبلاد، والتي تقترن في ذهن الأطفال بكل ما يشترونه من حلويات ولعب.
وهذا بالطبع ما يزيد من تكريس شخصنة السلطة في شخص الملك؛ إذ من خلال تداول الأطفال للقطع النقدية المتمثلة في الدرهم بلونه الفضي وشكله الدائري، الذي يحمل في أحد وجهيه صورة الملك وفي الوجه الثاني شعار المملكة، يبدأ الأطفال في تمثل السلطة السياسية في شخص الملك في وقت جد مبكر.
كما ترتبط الصورة في العملة بفكرة أن ترضية الحاجة الفردية لصيقة بالحصول على الدرهم. وقد فسر فيليب أرسي في كتابه "المال والسلطة" كيف يسهِّل تداول العملة عملية الخضوع للسلطة السياسية، وبالتالي تربية الأفراد وقولبة سلوكهم باعتبار أن العملة الأداة التي تسهل حصولهم على حاجياتهم الفردية، من طعام وشراب وترفيه، مرتبطة بصورة الشخصية السياسية المرسومة على أحد وجوهها.
- الدرهم كرمزية احتفالية
يشكل الاحتفال السياسي آلية من آليات اشتغال نظام الحكم الملكي بالمغرب، خاصة في مناسبات مرتبطة بتتويج الملك المتجسد في عيد العرش، أو بيوم ولادته وعيد ميلاده المتجسد في عيد الشباب. وبالتالي، فعادة ما يتم تخليد هاتين المناسبتين من خلال تعطيل العمل بمختلف المرافق الإدارية والقطاعات الخاصة، وإقامة احتفالات خاصة كحفل الولاء بما يرافق ذلك من مظاهر الزينة والتغطيات الإعلامية الرسمية. لكن إلى جانب هذه المظاهر الاحتفالية، جرت العادة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني أن يسك بنك المغرب قطعا أو أوراقا مالية لتخليد مثل هذه المناسبات.
فبمناسبة الذكرى الخمسين لميلاد الملك الراحل الحسن الثاني صدر مرسوم رقم 251-79-2 بتاريخ 23 رجب 1399 (19 يونيه 1979) بالمصادقة على ترويج قطعة نقدية لتخليد هذه الذكرى. كما صدر مرسوم رقم 148-99-2 بتاريخ 27 من ذي القعدة 1419(16ماس1999) بالموافقة على ترويج قطعة نقدية لتخليد الذكرى السبعين لميلاد الملك الحسن الثاني. في حين أصدر بنك المغرب مرسوما رقم 65-91-2 صادر في 28 رجب من 1411 (13فبراير 1991) بالموافقة على ترويج قطعة نقدية لتخليد "الذكرى الثلاثين لتربع صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني على عرش أسلافه المنعمين".
وعلى هذا الغرار، أصدر بنك المغرب مرسوما رقم 672-00-2 بتاريخ 15 من ربيع الأول 1421 (18 يوليوز 2000) بتداول قطعة نقدية بمناسبة الذكرى الأولى "لتربع صاحب الجلالة محمد السادس على العرش"، في حين صدر مرسوم بتاريخ 9 شتنبر 2002 بتداول قطعة بنكية من فئة 250 درهما بمناسبة "زفاف صاحب الجلالة الملك محمد السادس". بينما أصدر مرسوما بتاريخ 18 غشت 2003 بالموافقة على تداول ورقة بنكية من فئة 1000 درهم بمناسبة الذكرى الأربعين لميلاد الملك محمد السادس. وقد تجدد هذا الأمر بمناسبة الذكرى 53 لميلاد الملك؛ حيث أصدر بنك المغرب قبيل احتفالات عيد الشباب قطعة نقدية من فئة 1000 درهم يبلغ وزنها حوالي 40 غراما من الذهب الخالص وبقيمة إبرائية بمبلغ 10 آلاف درهم، وقطعة نقدية فضية من فئة 250 درهما.
- الدرهم وتكريس الاستمرارية السياسية
إن المخزون الرمزي الذي يختزنه النقد لا يتمثل فقط في رمزيته السياسية التي تهم جانب السيادة والثروة الوطنية، بل له أيضا جانبا أعمق وأقوى. فهو يذكر الأفراد بالحضور الدائم للسلطة. فإذا كانت الرموز المضروبة على النقد ترسخ فكرة وجود السلطة وقيامها، فإن الشكل الذي تتخذه النقود يرمز في الكثير من الأحيان إلى استمرارية السلطة ودوامها. فالشكل الدائري الذي تتخذه النقود يرمز، كما أشار إلى ذلك جواشيم، إلى سيرورة دائمة، ذلك أن الدائرة ترمز إلى التحرك الدائم والسيرورة الدائبة، ولا أدل على ذلك من أن جميع الأشكال الدائرية ترمز إلى الأزل والخلود (شكل الكواكب، بما فيها الأرض، مثلا).
ومن ثمة تحرص دار السكة على إصدار أكبر عدد ممكن من كتلتها النقدية على شكل مسكوكات معدنية دائرية (القطع الدائرية من فئة نصف درهم، ودرهم، وخمسة دراهم، وعشرة دراهم)، نظرا لأن ذلك لا يسهل فقط عملية التداول بين أوسع الأوساط الشعبية بالبلاد، بل يرسخ في الأذهان السيرورة المستمرة للسلطة الحاكمة. هذه الدلالة الرمزية نفسها تختزنها الأوراق البنكية التي كثيرا ما نجد جوانبها موسومة بأشكال دائرية تفيد الاستمرارية التي يكرسها التاريخ الرسمي للبلاد الذي يحدد تاريخ الدولة المغربية بظهور الأمراء الأدارسة الأشراف، وانتهاء بالسلاطين والملوك العلويين الشرفاء.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.