في التاسع والعشرين من ذي الحجة من عام 1180، الموافق 28 أيار/مايو من عام 1767، وقع سلطان المغرب مولاي محمد بن عبد الله بن إسماعيل، المعروف باسم محمد الثالث، معاهدة صلح مع ملك فرنسا لويس الخامس عشر، وهذا نصها دون تغيير، وقد وضعت بعض التفسيرات الضرورية بين [حاصرتين]:
معاهدة سلطان المغرب محمد الثالث مع ملك فرنسا لويس الخامس عشر
الحمد لله وحده
هذا ما صالح عليه مولانا الإمام المظفر الهمام السلطان الأعظم الأمجد المعظم سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله بن إسماعيل - الله وليه ومولاه - ابن إسماعيل قدس الله سره، سلطان مراكش وفاس ومكناسة وسوس وتافلالت وغيرهم، طاغيةَ جنس الفرنسيس ومن في حكمه لويز الخامس عشر من اسمه بواسطة الباشادور [السفير] المفوض إليه من قِبله وهو كونط دبرنيون، [comte de Breugnon]على شروط تذكر وتفصل بعد هذا، وتم هذا الصلح وانبرم في 29 ذي الحجة الحرام عام ثمانين ومائة وألف الموافق لتاريخ الروم لثمانية وعشرين من شهر مايه عام سبع وستين وسبع مائة وألف.
1- الشرط الأول: يؤسس هذا الصلح وينبرم على ما انبرمت عليه المصالحة بين السلطان الأعظم سيدنا ومولانا إسماعيل قدس الله سره وبين طاغية الفرنسيس في ذلك الوقت لويز الرابع عشر من اسمه والشروط المشار إليها هي هذه.
2- الشرط الثاني: إن لرعيتي الدولتين أن يذهبوا بتجاراتهم ومراكبهم حيث شاءوا برًّا وبحرا في أمن وأمان بحيث لا يتعدى أحدهما على الآخر ولا يمنعهم أحد من ذلك.
3- إذا التقت سفن سيدنا - نَصَرَهُ الله - الجهادية أو غيرها بقراصين الفرنسيس أو غيرها من سفنهم البازركانية [التجارية] حاملة لسنجق [علم] الفرنسيس، وعندهم بصابرط [من اللاتينية: باسبورت، وتعني: جواز سفر] من قِبل طاغيتهم على الوجه المصطلح عليه كما هو مرسوم آخر هذه الشروط فلا يتعرض لهم ولا يفتش فيهم، ولا يطالبون بغير إحضارها، وإن احتاجوا لما يقضونه لبعضهم على وجه الخير؛ قضوه من الجانبين، وكذلك السفن الفرنسيسية يفعلون مع سفن سيدنا - أيده الله - ما ذكر أعلاه إذا التقوا معهم، ولا يطالبونهم بشيء إلا بإظهار خط يد القونصوا [القنصل] الفرنسيسي المستوطن بإيالة سيدنا - نصره الله - على الوجه المصطلح عليه أيضًا كما هو مرسوم بآخر هذه الشروط.
ولا تطالب القراصين الفرنيسيسة الكبيرة بإحضار الباصابرط إذا التقت بهم سفن سيدنا - أيده الله - إذ ليس من عادتهم حملها، ويؤخر البحث عن الصغار لمضي ستة أشهر تأتي من تاريخه أولها يونية وآخرها نوفمبر الآتي. وفي هذه المدة يعطي طاغيتهم أمارة بالكتابة للسفن الصغار، وتأتي نسخة منها على يد القنصوا لتصاحب قراصين سيدنا في سفرهم بحيث إذا التقوا بهم يستظهر كل واحد بما عنده من ذلك العمل في نزول الفلوكة على ما وقع الشرط فيه بينهم وبين الجزيريين.
4- الشرط الرابع: إذا دخلت سفينة من سفن سيدنا الجهادية أو غيرها لمرسى من مراسي الفرنسيس أو بالعكس، فلا يُمنعون من حمل ما يحتاجون إليه من مأكول أو مشروب لهم ولمن معهم في سفنهم من الجانبين، وكذلك إن احتاجوا إلى آلة من آلات سفنهم فلا يمنعون من ذلك بالثمن الجاري بين الناس من غير أن يزاد عليهم شيء في جميع ذلك مراعاة للصلح الذي بين الرعيتين.
5- الشرط الخامس: لرعيتي الدولتين الدخول لأي مرسى شاءوا من مراسي سيدنا - أيده الله - أو من مراسي بلاد الفرنسيس والخروج منها سالمين آمنين، وأن يبيعوا ويشتروا ما شاءوا على حسب إرادتهم، وإن باعوا من سلعهم بعضا وأرادوا ردّ الباقي لمراكبهم فلا يطالبون بوظيف آخر، وإنما يطالبون بتعشير السلع أولاً عند نزولها فقط، ولا يدفعون في التعشير زيادة على غيرهم من الأجناس، ولتجار الفرنسيس التصرف في البيع والشراء في جميع إيالة سيدنا - نصره الله - كغيرهم، وإن تفضل سيدنا - أيده الله - على جنس من أجناس النصارى بنقص شيء من القُمرق أو من الصاكة وغيرها فهم من جملتهم.
6- إذا انتقض الصلح بين أهل تونس و الجزائر وأهل طرابلس وغيرهم وبين الفرنسيس ودخلت سفينة من سفن الفرنسيس أيًّا كانت لمرسى من مراسي سيدنا - نصره الله - وتبعتها سفينة حربية من سفن عدوّهم لتأخذها، فعلى أهل تلك المرسى منع سفينة الفرنسيس المذكورة من عدوّهم المذكور، ولو برميه بالمدفع ليبعد عدوّهم عنها، ويحبس المركب الطالب لها بالمرسى مدة حتى تبعد السفينة المطرودة عنها لئلا يتبعها في الحال حسبما هي العادة، وإذا التقت مراكب سيدنا الجهادية بعدوِّهم بكوشطة [ساحل] الفرنسيس فلا يأخذونهم إلا بعد تجاوز ثلاثين ميلاً.
7- الشرط السابع: إذا دخلت سفينة من عدو الفرنسيس لمرسى من مراسي سيدنا - أيده الله - وبها أسارى من الفرنسيس، فإن كانوا باقين بالمركب لم ينزل أحد منهم للبرّ فلا كلام معهم فيهم، وإن نزلوا للبر فهم مسرحون وينتزعون من يد الذي هم تحت أسره، وكذلك إذا دخلت سفينة من عدو سيدنا - نصره الله - لمراسي الفرنسيس وفيها أسارى من الإيالة المولوية يفعل بهم مثل ذلك، وإن دخل عدو للفرنسيس أيًّا كان لإيالة سيدنا بغنيمة أو دخل عدو سيدنا -أعزه الله - بغنيمة لمراسي الفرنسيس، فإن الجميع يُمنعون من بيع الغنيمتين بالإيالتين. وإذا وجد عدو إحدى الدولتين تحت سنجق الأخرى فلا يتعرض له ولا لماله من الجهتين، وإذا أخذت سفينة سيدنا - أيده الله - غنيمة ووجد فيها بعض الفرنسيس ركابًا فإنهم يسرحون بأموالهم وأثاثهم كله، وكذلك إذا غنم الفرنسيس سفينة لعدوه أيًّا كان ووجد فيها ركابًا من الإيالة المولوية فإنهم يفعل بهم مثل ذلك، وأما إن كانوا بحرية فلا يسرحون من الجانبين.
8- الشرط الثامن: لا يلزم رؤساء المراكب البازركانية بحمل ما لم يريدوه في سفنهم ولا أن يتوجهوا لمحل من غير إرادتهم.
9- الشرط التاسع: إذا انتقض الصلح بين وجاقات الجزائر ووجاقات تونس وطرابلس وبين الفرنسيس فلا يأمر سيدنا - نصره الله - بإعانة الوجاقات المذكورين بشيء أصلاً، ولا يترك أحدًا من رعيته يتسلح ويركب تحت سنجق أحد الوجاقات ليقاتل الفرنسيس، ولا يترك أحدًا يخرج من مراسيه ليقاتلهم، وإن فعل أحد من رعيته ذلك عاقبه وضمن ما أفسده، وكذلك يفعلون مع من عادى الجناب المولوي -أسماه الله- لا يعينونه ولا يتركون من يعينونه من رعيتهم.
10- الشرط العاشر: لا يكلف جنس الفرنسيس بدفع آلة الحرب من بارود ومدافع وغير ذلك مما يقاتل به.
11- الشرط الحادي عشر: لطاغية الفرنسيس أن يجعل بإيالة - سيدنا - نصره الله - من القونصوات ما أراد، وفي أي بلد شاء ليكونوا وكلاء له في مراسي سيدنا - أيده الله - ليعينوا التجار ورؤساء البحر والبحرية في جميع ما احتاجوا إليه، ويسمع دعاويهم، ويفصل بينهم فيما يقع بينهم من النزاع لئلا يتعرض لهم أحد من حكام البلد غيرهم. وللقونصوات المذكورين أن يتخذوا بدورهم موضعًا لصلاتهم وقراءتهم، ولا يُمنعون من ذلك، ومن أراد إتيان دار القونصوا للصلاة أو للقراءة من أجناس النصارى أيا كانوا فلا يتعرض لهم أحد ولا يمنعون من ذلك، وكذلك رعية سيدنا - أيده الله - إذا دخلوا بلاد الفرنسيس لا يمنعهم أحد من اتخاذ مسجد لصلاتهم وقراءتهم بأي مدينة كانوا. ومن استخدمه القونصوات المذكورون من كتاب وترجمان وسماسير وغيرهم فإنه لا يتعرض لمن استخدموه بوجه، ولا يكلفون بشيء من التكاليف أيًّا كانت في نفوسهم وبيوتهم، ولا يمنعون من قضاء حاجة القونصوات والتجار في أي مكان كانوا، ولا يدفع القونصوات ملزوما ولا وظيفا عما اشتروه لأنفسهم من مأكول ومشروب وملبوس، ولا يأخذ منهم العشر عما جاءهم من بلادهم من الحوائج المعدة للباسهم ومأكولهم ومشروبهم كيفما كانت، ولقونصوات الفرنسيس التقدم والتصدر على غيرهم من قونصوات الأجناس الآخرين، ولهم أيضا أن يذهبوا حيث شاءوا من إيالة سيدنا - أيده الله - برًّا وبحرًا من غير مانع لهم من ذلك، ويذهبون أيضا لسفن جنسهم إن أرادوا من غير مانع أيضًا, ودورهم موقرة لا يتعدى فيها أحد على آخر.
12- الشرط الثاني عشر: إذا وقع نزاع بين مسلم وفرنسيسيّ فإن أمرهما يرفع للسلطان - نصره الله - أو لنائبه حاكم البلاد، ولا يحكم بينهما القاضي في نازلتهما.
13 - الشرط الثالث عشر: إذا ضرب فرنسيسي مسلمًا فلا يحكم فيه إلا بعد إحضار القونصوا ليجيب ويدافع عنه، وبعد ذلك ينفذ فيه الحكم بالشرع، وإن هرب النصراني الضارب فلا يطالب به القونصوا لأنه ليس بضامن له، وكذلك إذا ضرب المسلم الفرنسيس وهرب فلا يطالب بإحضاره.
14- الشرط الرابع عشر: إذا كان لأحد من التجار دين على أحد من رعية الفرنسيس فلا يكلف القونصوا بخلاصه إلا إذا ضمن المال وكتب في ذمته فحينئذ يكون الخلاص عليه، وإن توفي أحد من النصارى الفرنسيس في جميع إيالة سيدنا نصره الله - فتسلم أرزاقه وأمتعته ليد القونصوا ليزممها ويختم عليها أو يتصرف فيها بما شاء، ولا يمنعه أحد من ذلك، ولا يتعرض له أحد من القاسمين ولا من أهل بيت المال.
15- الشرط الخامس عشر: إذا رمى الريح مركبًا من المراكب الفرنسيسية على سواحل إيالة سيدنا - نصره الله - أو جاء هاربًا من سفن أعدائه فليعط سيدنا أمره لجميع أهل سواحله أن من وقع عنده مثل ذلك يعينونهم على قدر طاقتهم إما بإخراج المركب للبحر إن أمكن، وإن حرّث أعانوهم على تخليص الأمتعة التي به وجميع آلاته، وكل ما خرج من المركب يتصرف به القونصوا القريب من ذلك المكان أو نائبه بما شاء ليخلص تلك السفينة بعد أن يعطي لمعينه أجرته، ولا يؤخذ عن تلك السلع حال التحريث عُشر إلا ما بيع منها فيؤخذ عُشره.
16- الشرط السادس عشر: إذا دخلت مراكب الفرنسيس القرصانية لمرسى من مراسي سيدنا - نصره الله - فليلتقوا بالبشر والبشاشة مراعاة للصلح الحاصل، ورؤساء هذه المراكب إن اشتروا بدرهمهم شيئًا من مأكول أو مشروب لا يطالبون بصاكة ولا بغيرها، وكذلك يفعل بمن دخل لمراسي الفرنسيس من سفن سيدنا - أيده الله - وهذا المأكول والمشروب المذكوران لأنفسهم ولأهل مراكبهم.
17- الشرط السابع عشر: إذا دخل قرصان من قراصين الفرنسيس لمرسى من مراسي الإيالة المولوية فإن القونصوا الحاضر في الوقت بالبلد يخبر حاكمها بذلك ليتحفظ على الأسارى الذين بالبلاد لئلا يهربوا للسفينة المذكورة، فإن هرب أسير وحصل المركب فلا يفتش عليه، ولا يطالب به القونصوا ولا غيره لأنه دخل تحت سنجق الفرنسيس ولاذ به، وكذلك من فعل من أسارى المسلمين أيًّا كانوا ذلك بمراسي الفرنسيس لا يفتش عليه لأن السنجق حَرَم.
18- الشرط الثامن عشر: ما نسي من الشروط يفسر ويشرح على وجه مفيد معتبر لكي يحصل منها خير كثير ونفع عام لرعيتي الدولتين ولأن بواسطتهما تشد عقود الموالاة والمصافاة.
19- الشرط التاسع عشر: إذا حصل خلل في الشروط التي انعقد عليها الصلح فلا يفسد الصلح بسبب ذلك، وإنما يبحث في المسألة ويرجع فيها للحق من أي إيالة كانت، ولا يتعرض لرعايا الدولتين الذين لا مدخل لهم في شيء من الأشياء ولا يباشر أحد من الرعيتين الخصومة والجدال إلا بعد مخالفة الشريعة والحق إعلانًا.
20- الشرط الموفي العشرين: إن قدر الله بنقض الصلح المنبرم فجميع من بإيالة سيدنا - نصره الله - من جنس الفرنسيس يؤذن لهم في الذهاب لبلادهم بأموالهم وأمتعتهم لمضي ستة أشهر.
ذكر الباصابرط المصطلح عليها لكل مركب من المراكب الفرنسيسية البازركانية من عند أمير البحر بكل مرسى من مراسي الفرنسيس لويس جان مري دبربون دك دبنطيور [Louis Jean Marie de Bourbon, Duke of Penthièvre]أمير البحر بإيالة الفرنسيس
السلام على كل من ينظر هذه الأسطر،
نعلمه أنا دفعنا ونفذنا إجازة بالباصابرط هذه لفلان رئيس المركب المسمى فلانًا فيه من الوسق كذا، وأنه ذاهب إلى بلد كذا موسق بكذا مكاحلة ومدافعة كذا، رجاله كذا، وهذا بعد ما صار النظر والاطلاع الشرعي بما فيه، فشهادة على ذلك وضعنا إمضاءنا وطابعنا، وكتب بخط يده كاتب البحر فلان في مدينة باريز في شهر كذا سنة كذا
لويز جان مري دبوربون وتحت ذلك...... من جانب حضرته السمية...
.............................. غرامبرك مختوم
ذكر خط يد القونصوا المصطلح عليه الذي يكون عند سفن سيدنا أيده الله.
صورته:
كاتبه فلان قونصوا الفرنسيس بإيالة سيدنا - نصره الله - بثغر كذا.
نُعلم كل من رأى هذه الأحرف أن المركب المسمى كذا رئيسه فلان، وفيه كذا، وهو من ثغر كذا بأنه هو ومن معه من إيالة السلطان المنصور بالله سيدنا محمد بن عبد الله سلطان مراكش ومن انضاف إليه, رجاله كذا، مدافعه كذا، وشهادة على ذلك وضعنا اسمنا على هذه الورقة التي ختمناها بخاتمنا في بلاد كذا في شهر كذا من سنة كذا.
لويس الخامس عشر لوحة للويس ميشيل فان لو |
بعد إيرادنا للمعاهدة نتحدث عن أطرافها:
ملك المغرب وملك فرنسا والسفير فيما بينهما
السلطان محمد الثالث بن عبد الله الخطيب، الملقب بالمتوكل على الله، ولد بمكناس سنة 1134=1710 وتوفي فيها سنة 1204=1790، ودرس العلم الشرعي على يد جدته لأبيه الفقيهة خُناثة بنت بكار، المتوفاة سنة 1159، وحج معها وهو في التاسعة من عمره، ومارس الحكم في حياة والده عندما ناب عنه في مراكش سنة 1158=1750.
تولى المولى محمد الحكم بعد وفاة والده سنة 1171= 1757، وكانت البلاد مضطربة إذ كان والده جباراً سفاكاً للدماء، فزار البلاد واستأنس الرعية، وأخضع الممتنعين من القبائل، وأصلح الأحوال، وجمع حوله الفقهاء وجعلهم حاشيته وأهل شوراه، وكانت له معهم مجالس مذاكرة في الفقه والحديث.
ولما استتبت له أمور الداخل، وجه همته لاستعادة الثغور الهامة على المحيط الأطلسي التي تناوشتها الدول الاستعمارية، ولا زالت تطمع في مزيد، وأدرك أن عماد القوة في زمانه هو الأساطيل البحرية، تردفها القوات البرية المدربة والمجهزة، فوجه اهتمامه لبناء أسطول مغربي يردع المعتدين، فأنشأ في سلا دار الصناعة وبنى فيها السفن الكبيرة التي تستطيع مواجهة السفن الأوروبية، واستورد لها من أوروبا أسلحتها وذخائرها، إضافة إلى السفن التي كان يغنمها مجاهدو المغرب من ذوي الخبرة بالملاحة والبحر، وجلهم من أهل سلا والرباط، في غزواتهم البحرية التي كانت الدول الأوربية تعدها قرصنة.
وكانت السفن التجارية المبحرة جيئة وذهاباً من أوروبا إلى القارة الأمريكية، شماليها وجنوبيها، هدفاً ثميناً إذ كانت محملة بالذهب والفضة والبضائع النفيسة المفيدة من المستعمرات الأسبانية والفرنسية، وينبغي أن نذكر أن الخطر المغربي "المسلم" لم يكن الخطر الوحيد الذي يترصدها، بل كان قراصنة البحر الكاريبي أعتى وأشد، وبعضهم كان تحت حماية الدول البحرية الكبرى ما دام يستهدف سفن أعدائها.
وبعد انتهائها من حرب السنين السبع مع بريطانيا، وجهت فرنسا اهتمامها لمنع هجمات المغاربة على سفنها، وحاصرت في سنتي 1763 و1764 الشواطئ المغربية لمنع الهجمات على سفنها، ولكن تلك الحملة لم تحقق النجاح المطلوب، واستولى مجاهدو سلا على السفينة الفرنسية لا سيرين وحولوها إلى سفينة جهادية، وقرر الملك لويس الخامس شن حملة كبيرة للقضاء على الخطر المغربي قضاء لا تقوم له بعده قائمة، فكون حملة كبيرة حاصرت ثغر سلا وقصفته بالقنابل، ولما لم يفلح اتجه إلى ميناء العرائش، فهزم كذلك هزيمة منكرة رغم تفوق مدفعية سفنه التي قصفت المدينة أياماً متوالية، ذلك إن المغاربة استولوا على أحد المراكب الفرنسية وساقوه داخل الخليج، فأرسل الفرنسيون مجموعة من القوارب تقل 800 جندي لتقوم بإعادة المركب المأسور أو إحراقه فلا يستفيد منه المغاربة، وترك المسلمون هذه القوارب تتوغل في الخليج ثم سدوا طرق فرارها وانقضوا عليها وقتلوا 200 جندي وأسروا 48 آخرين.
ولجأت فرنسا إزاء هذا الفشل إلى فرض حصار بحري على المغرب وصارت تفتش السفن الأوروبية القادمة للمغرب وتصادر ما عليها من عتاد اشتراه الملك المولى محمد لأسطوله وجيشه، واعترضت فيما اعترضت سفناً من هولندا والدانمرك وأخذتها إلى ميناء طولون، ولم يكن للمولى محمد قبل بمواجهة مباشرة أو طويلة مع ثاني أقوى أسطول في العالم، فمال لعقد الصلح مع الفرنسيين، وكانت ثمرته الاتفاقية التي بدأنا بسرد شروطها، والتي يعدها المؤرخون نهاية الجهاد، أو القرصنة، البحرية المغربية، ذلك إن أسبانيا وقعت اتفاقية سلم وتجارة في تلك السنة، فتضاءل عدد السفن التي يمكن الهجوم عليها، ولعل آخر هجوم قام به المغاربة كان في سنة 1187=1773 حين هاجمت بعض السفن المغربية فرقاطة عائدة لمقاطعة توسكانيا في أيطاليا، فغرقت سفينة القائد المغربي بعد بضعة طلقات مدفعية وأسر قائدها، وهربت باقي السفن إلى ميناء العرائش.
واتجه السلطان مولاي محمد بعد الاتفاقية لتحصين الشواطئ والثغور المغربية فلا يطمع فيها طامع، وتخليص ما احتلته منها الدول الأوربية، فبنى ميناء الصويرة سنة 1178 جنوبي المغرب على الأطلسي، وجعل فيه قلعة حصينة ومرسى منيعا، واسترجع مازغان من البرتغال سنة 1182، واسترجع ثغر البريجة من البرتغال سنة 1182 بعد احتلالهم له قرابة 300 عام، ثم حاول استرداد مليلة من الأسبان في سنة 1188 فحاصرها ولكن المحاولة فشلت لأن البريطانيين الذين وعدوه بالمساعدة لم يفوا بوعودهم.
وكان لدى الأسبان والفرنسيين أعداد كبيرة من الأسرى المسلمين، من مجاهدي البحر أو من ركاب السفن من المسافرين، فكتبوا إلى المولى محمد يسألونه العمل على لإطلاق سراحهم، وأرسل في ذلك سفيره أحمد بن المهدي الغزال، المتوفى سنة 1191، ومما جاء في رسالته للملك كارلوس الثالث ملك أسبانيا: إننا في ديننا لا يسعنا إهمال الأسارى وإبقاؤهم في قيد الأسر، ولا حجة للتغافل عنهم ممن ولاه الله تعالى التصرف والأمن. وبلغ عدد الأسرى الذين افتكهم 48.000 أسير أنفق على فكاكهم أموالاً طائلة، ولم يكونوا كلهم من المغرب، بل كان منهم عدد كبير من طرابلس الغرب وتونس والجزائر.
وفي سنة 1191=1777 اعترف المولى محمد بالولايات المتحدة الأمريكية التي أعلنت استقلالها عن بريطانيا، وفي سنة 1200=1787 أرسلت الولايات المتحدة بعثة للتفاوض مع طرابلس الغرب و الجزائر والمغرب لكف سفنهم عن مهاجمة السفن الأمريكية، ورفض حكام طرابلس والجزائر الاتفاق، ولكن المولى محمد استجاب لطلب اللجنة ووقع معهم معاهدة على ذلك، فقد كانت سياسته الخارجية قائمة على تحسين علاقات المغرب بالدول، وبخاصة تلك التي لم يكن لها في المغرب مطامع أو سوابق استعمارية، وقد أرسل له الرئيس جورج واشنطون رسالة خطية يشكره على المعاهدة.
وكان المولى محمد الثالث مدركاً لأهمية الرابطة الإسلامية مخلصاً لها، ولذا كان شديد المراعاة للسلطنة العثمانية رغم تطلعها التاريخي لبسط نفوذها على المغرب، مثلما بسطته على دول المغرب العربي وتونس، وفي سنة 1182 نشبت الحرب في القِرِم بين السلطان مصطفى الثالث وبين الملكة كاترينا، ووقفت فرنسا مع الدولة العثمانية، وكان لذلك وقعه عند محمد الثالث الذي قال في رسالة له إلى ملك فرنسا لويس الخامس عشر في منتصف سنة 1186: إننا معك على المهادنة والصلح التامَّين، والذي أكدَّ ذلك ما بلغنا عنك من ميل نفسك لجانب أخينا السلطان مصطفى نصره الله وانحياشك إليه ومحبتك لنصرته على جنس الموسكو دمره الله، وقد أعجبنا ذلك وزادك عندنا عهدا ومكانة، تولى الله هدايتك؛ آمين.
وبقي هذا منهج الملك محمد الثالث حتى وفاته، فقد ورد في منشور أرسله إلى كافة القناصل بثغر طنجة في سنة 1202: إن كل من هو على صلح مع السلطان العثماني فهو على صلح معنا... واليوم الذي يعقد فيه جنس الصلح مع السلطان العثماني، فقد عقده معنا... ونأمركم أن تعلموا بهذا جميع أجناس النصارى.
توفي المولى محمد في منتصف عام 1204=1790 بعد أن حكم المغرب 33 سنة، كان فيها مجدداً على الصعيد السياسي الداخلي والخارجي، ورائداً لنهضة علمية وفكرية، فكانت حقبته من الحقب الذهبية في تاريخ المغرب الأقصى.
أما الملك لويس الخامس عشر والذي ولد سنة 1710 وتولى الحكم في ظل وصاية بعد وفاة جده سنة 1715، ثم تولاه مستقلاً بعد بلوغه سن الرشد في سنة 1723، ولكنه كان تحت تأثير الكاردينال دو فلوري حتى وفاته سنة 1744، حيث تحرر الملك من نفوذه وبدأت يحكم وفقاً لنظرته ورأيه، ولكنه كان واقعاً في قراراته السياسية تحت تأثير بعض من محظياته العديدات، وفي سنة 1756 شكل تحالفاً مع النمسا ليخوض حرباً مع بريطانيا عُرِفت بحرب السبع سنوات، وكانت نتيجتها كارثية على فرنسا التي لم تكن كفؤاً لبريطانيا من حيث القوة البحرية أو الموارد البشرية، وخسرت عقبها فرنسا كل مستعمراتها في أمريكا الشمالية، وجاءت هذه المعاهدة عقبها ضمن محاولات لتقوية مركز فرنسا على الصعيد الدولي بعد خسارتها الساحقة إزاء بريطانيا، وبسبب من سياساته الخارجية الفاشلة وإصلاحاته الإدارية والمالية التي لم تلق القبول، مات لويس الخامس عشر في سنة 1774 وهو مكروه مذموم بين أبناء شعبه.
أما السفير الكونت دبرينون، واسمه بيير كلود هودِنو، فينحدر من عائلة نبلاء فرنسية خدمت في البحرية الفرنسية أبا عن جد، وولد في سنة 1717والتحق بالبحرية في سن السادسة عشرة، وترقى فيها حتى صار قائد فرقاطة، ثم جعله لويس الخامس عشراً سفيراً فوق العادة وأرسله في بعثة دبلوماسية إلى المغرب ضمت عدة سفن من الأسطول الفرنسي وكان هو على السفينة لو ينيون التي كانت مسلحة بأربعة وستين مدفعاً و450 رجلاً، وقابل السلطان في مراكش، ودارت المباحثات في أمر الاتفاقية 10 أيام وانتهت بتوقيعها، وعاد الكونت دبرينون إلى قصر فرساي وقدم تقريره للملك الذي أنعم عليه برتبة نائب أدميرال، وشارك دبرينون في سنة 1778 في الأسطول الذي أرسلته فرنسا لمساعدة الأمريكان في حرب الاستقلال عن بريطانيا، ولقي حتفه غيلة سنة 1792 في مجازر أيلول التي جرت بعد أيام من الثورة الفرنسية وإلغاء الملكية.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.