دوكاستري…وتاريخ المغرب -3-
دعوة الحق 160 العدد
إن" مجموعة الوثائق غير المنشورة" تشتمل الآن على سبعة و عشرين مجلدا ضخما و هي، كما قلنا من قبل، تضم الوثائق الخاصة بتاريخ المغرب في عهدي الدولتين السعدية و العلوية، و المستخرجة من الخزانات و دور المحفوظات الأوروبية، و بصفة خاصة، الفرنسية و الهولندية و الإنجليزية و الإسبانية و البرتغالية، و هي مصنفة كما يلي:
أ) السلسلة الأولى:الدولة السعدية (1530ـ1630).
1-الوثائق الفرنسية:3 مجلدات، و كراسة للفهارس العامة.
2-الوثائق الهولندية:6 مجلدات، و يشتمل المجلد السادس على الفهارس.
3- الوثائق الإنجليزية:3 مجلدات، و يشمل المجلد الثالث على الفهارس.
4- الوثائق الإسبانية:3 مجلدات، (1531 إلى 21 غشت1578)، و أثبتت الفهارس في المجلدين الثاني و الثالث.( ووعد بإخراج مجلد رابع)
5- الوثائق البرتغالية:5 مجلدات، و يحتوي الخامس على الفهارس العامة
ب) السلسلة الثانية:الدولة الفيلالية( أي العلوية) ( من 1661 إلى ال1845).
6- الوثائق الفرنسية:6 مجلدات،( فيما يهم الحقبة التاريخية التي بين 1661 و1718)، أضيف إليها سنة1970، مجلد سابع صغير يشتمل على وثائق تخص الحقبة التاريخية التي بين1718 و 1725 (ووعد بمتابعة نشر الوثائق المتعلقة بالفترات التالية).
نشر دوكاستري المجلد الأول من سلسلة الوثائق الفرنسية، سنة1905. و لما مات سنة1927، كان قد نشر، على التوالي، وثائق الحقبة السعدية، التي بدور المحفوظات الفرنسية و بهولندة أو ما يسمى بالبلاد المنخفضة و بالكترا،كما نشر المجلد الأول من الوثائق التي باسبانيا، و المجلدات الثلاثة الأولى من الوثائق المتعلقة بالدولة الفيلالية، و المستخرجة من الخزائن الفرنسية و دواوين وزارات الخارجية و أرشيف المراسي.
أشرنا في المقال السابق أن الكولونيل هنري دوكاستري كان اتخذ بباريس مقرا لأبحاثه، خصصت له اعتمادات من الميزانية المغربية، و أطلق عليه فيما بعد، اسم:" القسم التاريخي المغربي بباريس"Section historique du Maroc a Paris
كان ذلك القسم تابعا لإدارة التعليم، و قد أسند الإشراف عليه، بعد وفاة دي كاستري، للأستاذ بيار فيليب دو كوسي بريساك الذي توفي سنة1963، ثم للبحاثة شانطال ذو لافرون التي بقيت مكلفة،من لدن وزارة التربية الوطنية، فوزارة الثقافة، بنفس المهمة إلى أن قرر نقل ذلك القسم و محتوياته من باريس إلى المغرب في أوائل السنة الحالية (1974م)
شارك في البحث عن الوثائق، و في تنسيقها و إعدادها للنشر، طائفة من الأساتذة الفرنسيين المتخصصين عاش كثير منهم مدة طويلة بالمغرب،و جماعة من الأساتذة المغاربة من الذين تخرجوا من المعاهد الفرنسية، و ساعدهم على ذلك ثلة من المشرفين على دور المحفوظات بفرنسا و غيرها، المولعين بالبحث و التنقيب،المدربين على الضبط و التوثيق.
إن كل سلسلة من هذه المجموعة،بل يمكن القول إن كل مجلد منها، صدر بمعلومات عن الفترة التاريخية لتوضيح ما قد تشير إليه الوثائق المنشورة، من أحداث تاريخية، أو مواقف سياسية، أو معاملات تجارية، أو تقاليد اجتماعية خاصة الخ..
هذا و قد حرص كل المهتمين بالتحقيق، على أن يلحقوا النصوص العربية بترجمتها إلى اللغة الفرنسية، و على أن يصدروا، بملخصات متقضبة أو مفصلة، كل الوثائق المحررة بلغة غير اللغة الفرنسية، كما لم يغفلوا عن تصوير الوثائق الأصلية المهمة، مثل رسائل الملوك المغاربة، و كذا عن تزيين بعض التقارير السياسية أو الاقتصادية أو الدبلوماسية بنسخ من رسوم أو تصاميم خططها و أضعوها لتوضيح نظرية، أو تعليل رأي، أو تأييد اقتراح.
إن الوثائق التي نشرت إلى حد الآن تهم حقبة تاريخية تمتد من 1530 إلى 1725م أي القرنين الهجريين العشر و الحادي عشر، و هي حقبة تلت انتهاء الغازات الصليبية العلنية على المشرق، و سقوط غرناطة نتيجة هجمات جيوش كاثوليكية من ورائها البابا يوحد الخطة و يمنح القداسة و تم فيها اكتشاف القارة الجديدة و طريق الهند البحرية، كما تم فيها استيلاء الجيوش العثمانية على القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية الرومانية. و خلال تينك القرنين احتدم الصراع بين الدول الإسلامية المحيطة بالبحر المتوسطة و في مقدمتها الدولة العثمانية المرهوبة الجانب، و بين الدولتين المسيحيتين الإسبانية و البرتغالية، المحمومتين بغضا على الأمم الإسلامية، المشبوبتين بنار الحقد عليها، و المتطلعين لتوعين مراسي قواتها البحرية، و تمزيق عرى أساطيلها، و ذلك لتيسير ابتلاع خيرات إفريقيا، و امتصاص ثروات أمريكا، و نشر النفوذ على طريق رأس الرجاء الصالح، لاستعمار الهند و ما جاورها من أراضي غنية. و كل ذلك أثار تنافس الدولة الغربية الأخرى، كفرنسا و على رأسها حامي الكتل الجديدة، الملك لويس الرابع عشر،وهولندا و انجلترا حيث تمركز المذهب البرتستاني و هجر الكثير من اليهود الإبيرين، و الفارين من مخالب التعصب الكاتوليكي.
نعم اشتد النزاع بين هذه الدول الأوروبية من جهة، و بين الدولتين المذكورتين، و لاسيما اسبانيا عندما كان على رأسها الملك فيليب الثاني، الطاغية المشهور بتعصبه لدينه و لأبناء قومه. و لكن لم تكن من بينها واحدة تضمر الخير لدولة إسلامية، و بالخصوص المغربية منها، و لذلك كانت الأساليب المتبعة من لدن أي دولة من الدول الأوروبية، لكسب مودة دولة إسلامية أو الاستنجاد بها، تختلف باختلاف الظروف و الملابسات. و فيما يخص المغرب الأقصى، كانت كل دولة من الدول السالفة الذكر تنوع المساعي العلنية و السرية، و الوسائل المادية و المعنوية، و تستخدم أنواعا من المغربات أو المنبطات، لتوكيد اتصالات ودية، أو تحسين أحوال مسيحية، أو تأمين صفقات تجارية، أو على العكس من ذلك، لتوهين علاقات أو إحباط اتفاقات، و تأجيج فتن تخريبية ، و تحريض على شق عصا الطاعة.
في عهد الدولتين السعدية التي تلألأ نجمها بعد انتصار أحمد الذهبي على ملك البرتغال في وادي المخازن، ثم العلوية التي وطد دعائمها المولى رشيد وطهر معالمها المولى إسماعيل، ذلك البطل المغوار الذي كان شبحى في حلوق المتألبين ضد الإسلام و الطامعين في الاستحواذ على ثروات العالم، أو فرض نفوذهم و نشر سيطرتهم على مجالات القرصنة و اللصوصية البحيرة و الطرق التجارية الواصلة بين المارات.
إن تنوع العلاقات و الاتصالات أدى، بطبيعة الحال، إلى تنوع الوثائق التي اهتم دوكاستري و خلفاؤه بنشرها و الخاصة بتاريخ المغرب: فهي تشتمل على تقارير حررها سفراء أو قناصل أو رؤساء أساطيل بحرية، أو أساقفة أو سماسرة أو جواسيس، و على رسائل صادرة عن ملوك أو وزراء أو ضباط، ودراسات قام بها أسرى من ذوي الشأن أو مرتزقة مغامرون، كما تشتمل على صور فوتوغرافية لخرائط و رسوم و عقود و أشخاص، و هي وثائق ذات قيمة تاريخية جد مفيدة لمن يرغب في دراسة التطورات التاريخية المغربية المتعلقة بالأحداث السياسية، و الجولات الحربية في البر و البحر، و المضاربات التجارية، و نشاط البعثات الدبلوماسية و الوفود المكلفة بفداء الأسرى أو بإعداد الغازات القرصانية وتنظيم هجمات اللصوصية البحرية.
إن جل الوثائق المنشورة في مجموعة دو كاستري كانت غير معروفة لدى المؤرخين المغاربة، و هي بالإضافة إلى ذلك تلقي أضواء على الأعيب و مؤامرات دبرها يهود لا يراعون لمن آووهم إلا و لا ذمة، كما تلقي الأضواء على أحداث سياسية و مجالات حضارية و اجتماعية فلما ذكرت، حينما ذكرت. بنفس الوضوح و بنفس التفاصيل في مؤلفاتنا الوطنية القديمة.
لقد قرأنا، ما يؤيد هذا الحكم، في كتاب المرحوم المختار السوسي" أيليغ قديما و حديثا" عندما تكلم عن العلائق التجارية التي كانت رائجة بمراسي جنوب المغرب( بين ص162 و ص221) ناقلا المعلومات بوجه خاص من السلسلتين الهولندية و الإنجليزية،اللتين قام بنشرهما دو كاستري. قال رحمه الله:" هذا الفصل الذي نحن بصدد تنسيق مواده أمام القارئ مفقود المواد في تواريخنا المغربية فيما نعلم، فلولا ما ننقله عن كتب الأجانب حواليه لكنا منه في ديجور كثيف، و قد أفادتنا المجموعة التي جمعها دو كستري الفرنسي في الموضوع".
و قال الأستاذ محمد بن عبد الله الرداني مخرج كتاب" أيليغ" في حلة ممتعة، ممهدا لترجمة دوكاستري (ص221، تعليق رقم 464):" من الوفاء و المكافأة لهذا الرجل الذي أصبح اليوم مرجعا مهما- إن لم يكن وحيدا- في موضوعه سواء بالنسبة إلينا أم بالنسبة للذين استقى منهم هذه المعلومات، إن ثبتت هنا ترجمته، فهو و إن كان قام بهذا العمل لغاية معروفة، فها نحن أولاء أصبحنا نستفيد مه، فوجب علينا أن نقدر له هذه الاستفادة".
و فيه مؤرخ الدولة العلوية المرحوم مولاي عبد الرحمن بن زيدان في كتابه العز و الصونة (ج1-ص276) إلى قيمة مجموعة دوكاستري حيث قال:" و نجد في المجموعة الكبرى للمؤلف القدير الكونط دوكاستري، و في كتبنا التاريخية، ما فيه غنية و فائدة جلى"و حيث تكلم في فصل " نظام استقبال سفراء الدول الأجنبية" من نفس الكتاب عن مهام سفارة سان أولون إلى الحضرة الإسماعيلية:" قال الكونط دوكاستري في ص60 من الجزء الرابع( السلسلة الثانية):و كانت لهذا المأمور سرية، و هي الاستطلاع على أحوال المغرب كلها، و البحث عن اتساع المملكة الشريفة، و عن أراضي المغرب و قيمتها الفلاحية من حيث الخصب و غيره، و إحصاء المدن و سكانها، و من هم الأمراء المجاورون للمملكة المغربية الذين يمكن أن يقع بينهم و بين سلطان المغرب حرب، و البحث في الجيوش المغربية، خيالة و مشاة و أصحاب المدافع، و البحث في رواتبهم و كيفية محاربتهم، و عن سيرة السلطان و معاملته مع الرعية، و نظام الأحكام في المدن، و عوائد المغاربة، و دينهم، وكلف السفير بكتابة تقرير في هذه المسائل و تقديمه لجلالة ملكه".
لفت كذلك الأنظار لقيمة مجموعة دوكاستري في الإتحاف(ج2ص53) حيث قال:
"و من أكبر البراهين و أوضح الأدلة على ما كان بين المولى إسماعيل و بين عظماء أوربا من العلائق السياسية ما وقفت عليه في عدة مكاتب و مخابرات صدرت بينه و بينهم، ألم بكثير منها مؤرخ فرنسا الماهر الشهير الرحالة الفيلسوف الخبير الكونت دوكاستري في عدة من كتبه".
إن دو كاستري كان حقا ماهرا في اختيار و تنسيق ما وجده من وثائق، و قد أثنى عليه كل المؤرخين الذين اطلعوا على مجموعته أو استقوا منها عناصر دراستهم.
كان الأخصائيون الأوروبيون يقدرون أعماله حق قدرها، و كانت المجلات و الجرائد الكبرى تهتم بنشر مقالاته، و كانت المنظمات المشتغلة بالأبحاث التاريخية ترحب بمحاضراته،و كانت الخزائن و دور المحفوظات تجعل رهم إشارته موظفيها،وقد حظي بالمساعدات المادية و المعنوية من لدن المصالح السياسية و الثقافية، سواء منها التي بفرنسا أو بالبلاد المستعمرة. فإن كنا لا نجد إلا عددا قليلا من المؤرخين المغاربة استمدوا مواد دراستهم من مجموعة دوكاستري، أو انتقوا منها بعض الرسائل و الصور و الخرائط و اعترفوا بفضله، فإن الكثير من الأجانب،و خصوصا الفرنسيين الذين تكلموا عن تاريخ المغرب السياسي أو الحضاري أو الاجتماعي أو الاقتصادي. استغلوا الوثائق المذكورة، ومنهم من فعل ذلك بتبصر و حذر متحريا الحقائق كما أن منهم من حاد وزاغ عن جهل و عن قصد، و تعسف و تمحل، كايد، ساحبا بالبغي أذياله، ليظهر الباطل صوابا و يزيد الخرق اتساعا و يؤكد على ما ألصق بالمغرب و أهله، و بالعرب و المسلمين على وجه العموم، من صفات قائمة و أخلاق منفرة، حبك نسجها أساقفة بعثات مسيحية، و أسرى مغرضون، أو تجار يهود خداعون،أو دبلوماسيون مدلسون.
و مهما يكن من أمر فإن مجموعة دوكاستري تعد بمثابة كشكول يجد فيه كل باحث ما يتطلع إليه من تقارير مفصلة حول إقامة سفير بالبلاد الموفد إليها إلى بيانان حول مرسى من المراسي المغربية، أو جالية من الجاليات المسيحية المرتزقة بالمغرب، إلى مواثيق لضمان نجاح معاملات تجارية، أو تنفيذ مساعدات عسكرية،كما يجد فيها كل هاو مولع، طرائف ممتعة حول تهريب العملة السعدية، و الاستحواذ على الكتب المخطوطة، أو المتعلقة بتجارة السكر و العدو الحربية: و بفداء أسرى القرصنة و اللصوصية البحرية، و المهرجانات و الاحتفالات المنظمة لاستقبال السفراء و اطلاعهم على معالم القوة و النفوذ و الرفاهية الخ..
فإن الاعتناء بهذه المجموعة أمر ضروري. و مما يستوجبه الاعتناء بها، تكوين إطارات أخصائيون في شؤون الببلغرافية، و تنظيم الوثائق، و أساليب البحث و التصحيح ووضع الفهارس الخ.. و تخصيص مرافق لائقة تفي بمتطلبات هذا النوع من النشاطات، و تشجيع البحاثة و القائمين بالتنسيق و التلخيص و الترجمة الخ.. و في الأخير إعداد مستودعات نقل منذ شهور مضت من فرنسا إلى الرباط، و أعني بذلك محتويات القسم التاريخي المغربي الذي أسسه دوكاستري بباريس، لننفض عن المغرب غبار الخمول و الإهمال، و نربي الجيل الصاعد على احترام مقومات أصالته، و لكن مع العمل على تنمية مفاخره، و الاتعاظ بما تشتمل عليه من دروس و عبر.
فشر العالمين ذوو خمول
إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا
و خير الناس ذو حسب قديم
أقام لنفسه حسبا جديـــــــدا
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.