"شفرة الموحدين" سر صمود بنايات تاريخية في وجه زلزال الحوز
يقف المهندس المدني المغربي زهير بناني طويلا وهو يتأمل صومعة الكتبية الشامخة في قلب المدينة الحمراء، يسترجع ذكرى تلك الصور التي أظهرتها تهتز أثناء حدوث زلزال الثامن من سبتمبر/أيلول الماضي، هزت معها قلوب من يقدرون عظمة وتاريخ هذه المعلمة التاريخية.
هو الشعور ذاته الذي تملكه وهو يعيد زيارة المناطق المتضررة من الزلزال في قلب جبال الأطلس بعد نصف سنة من الحادث خلال عمله في اللجنة المغربية للمجلس العالمي للمباني التاريخية والمواقع إيكوموس-المغرب.
يقول بناني الباحث المتخصص في فحص البنايات التاريخية للجزيرة نت إن صمود عدد من البنايات التاريخية، بالرغم من قدمها منذ آلاف السنين، يثير ذلك السؤال عن السر العميق الذي اكتشفه حرفيو البناء في تلك الفترة، جعلهم يمزجون بين العلم والخبرة ومعرفة مكان وقوع الزلازل والوقاية منها.
تأثير
بعد مرور أكثر من 7 أشهر على زلزال الحوز، لا يزال سؤال تأثير هذا الحدث على المباني التاريخية وإمكانية إعادتها إلى حالتها الأولى يشغل بال الخبراء والمهتمين كما الساكنة.
في هذا الصدد يشير محمد أبو عصمان الأستاذ المحاضر والخبير في التراث الثقافي بالإيسيسكو إلى أن آثار الزلزال على المعالم الثقافية كانت واضحة، مبرزا أن اختيار مدينة مراكش عاصمة للثقافة الإسلامية لسنة 2024 مناسبة للوقوف على هذه الآثار من خلال تنظيم الندوات والمحاضرات والزيارات الميدانية، وذلك من أجل إبراز أهميتها الثقافية وضرورة الحفاظ عليها وتثمينها حفاظا على الإشعاع العالمي التي يميز المدينة الحمراء.
ويضيف للجزيرة نت أن المنظمة تعمل على مواكبة الأشغال الجارية لإعادة بناء المعالم الثقافية ضمن البرنامج الوطني الذي أقرته المملكة المغربية في إطار إعادة الإعمار، من خلال المساهمة المالية، علاوة على مساعدة المتضررين من الزلزال في الخروج من حالة ما بعد 8 سبتمبر/أيلول الماضي، من خلال الوُجود بالميدان وتقديم المعونات الضرورية، ولكن أيضا من أجل مساعدتها على الحفاظ على الموروث الثقافي في مجال البناء والهندسة المحلية، والذي يمكن أن يسجل ضمن لوائح الإيسيسكو للحفاظ على التراث المادي واللامادي.
وبخصوص المدينة القديمة بمراكش، يعتبر الخبير والباحث عبد العزيز بلقزيز في حديث للجزيرة نت أن الأضرار المسجلة في المدينة القديمة لمراكش كانت متوقعة بالنظر لكون نسيجها التقليدي تعرض لضغوطات جمة، إذ يتم اليوم تكثيف مبانيها وتقسيمها وتعليتها، كما أن استخدام المواد التقليدية يكاد يكون ضئيلا مقارنة مع استعمال الإسمنت المسلح.
دفاع
يدافع الخبراء عن ضرورة إعادة الإعمار المناطق المتأثرة بزلزال الحوز بالوسائل التقليدية لأسباب تقنية وأخرى جمالية وثقافية. ويبرز المهندس المعماري المغربي حسن سيدي حيدا، أن المطلوب ليس إنجاز بناءات أحسن مما كان، ولكن إعادتها إلى حالتها الأصلية، لأن الرهان ليس فقط في الجودة، ولكن في الحفاظ على موروث ثقافي وتاريخي وتثمينه باعتبار أن غالبية التجمعات السكنية المتضررة تعد ذات قيمة معمارية تراثية.
ويضيف للجزيرة نت أن ملاحظة اختيارات السكان الأصليين لمناطق البناء بجميع خصائصها الصخرية والمناخية وارتفاعها وقبلتها، علاوة على هندسة البنايات والطرقات والشوارع، تظهر قيمة الموروث العمراني ومدى الخبرة التي وصل إليها هؤلاء في الوقاية من الحوادث الطبيعية ومنها الزلازل، والتي يجب الاستفادة منها إلى أبعد الحدود.
بدوره، يؤكد أبو عصمان خبير الإيسيسكو أهمية الخبرة الهندسية المحلية في مجال إعادة إعمار المناطق المتضررة من الزلزال، وأيضا أهمية استعمال المواد المحلية، والتي تعد ملائمة أكثر، علاوة على تنوعها وغناها، للحفاظ على الموروث الثقافي وأيضا لمقاومة الزلازل، مقارنة مع استعمال الوسائل الحديثة.
شفرة
أمام جمهور من طلبة المدرسة الوطنية للهندسة بمراكش ينطلق الخبير في التراث زهير بناني من قوله ابن الرومي "يتحول التراب إلى ذهب في أيدي الحكماء" ليقدم ما أسماها "شفرة الموحدين" بشكل مبسط، والتي هي -يقول في حديث للجزيرة نت إنها- نتاج خبرته لدراسته عددا من البنايات التاريخية الخالدة مثل الصوامع الثلاث المشهورة، الكتبية، حسان، الخيرالدا، ومسجد تنمل، والتي تعد نموذجا لعبقرية الفترة الموحدية في البناء والهندسة.
يشبه تلك البنايات التي بنيت الواحدة منها بشكل مختلف عن الآخر باختلاف المكان وطبيعة المواد المستعملة، ببنية العمود الفقري للإنسان، والمكون من فقرات تشد بعضها بعضا غضاريف مرنة مقاومة لكل هزة أو سقوط، معتمدة على الصلابة الشاملة والليونة الداخلية.
ويضيف أن البناء يجب أن ينتج عن "الحاجة" المقرونة بـ"الحكمة" في التخطيط أو التنفيذ، مدافعا عن استعمال المواد المحلية الطبيعية التي لا تكلف شيئا تقريبا، وتعد امتدادا للإنسان في الطبيعة، وتنفيذ "لمعلم" التي يستمد قوته من خبرته وأيضا من مبادئه وتربيته الأخلاقية، مما ينتج عنه حتما معمار ذي جمال أخاذ بطابع إنساني فريد.
فيما يبرز الأستاذ بالمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية سيدي حيدا إن إعادة البناء يتطلب الحفاظ على مبادئ السلامة ضد الزلازل، والبحث عن حلول للصرف الصحي، قد تكون معتمدة على التكنولوجيا أو التقنيات البيئية، علاوة على إعادة إحياء تقنيات البناء التقليدية المتعددة وتثمينها، معتمدة على المواد الطبيعية والهندسة المحلية.
ويشير إلى أن استعمال المواد التقليدية في البناء بالإضافة إلى الهياكل المضادة للزلازل يعد ضروريا لترشيد استهلاك الطاقة باعتبار أن مناخ هذه المناطق الجبلية شديد البرودة في فصل الشتاء.
وقاية
يلاحظ المهندس بلقزيز أن مراكش تشتهر بشكل رئيسي بتراثها الثقافي، منها القصور والمتاحف والمباني المبنية تقليديا، لذلك تستحق إنشاء وكالة متخصصة في إعادة تأهيل المباني التقليدية، ووضع قوانين لوائح مخصصة للبناء في المدينة القديمة، ومراقبة استعمال الأساليب التقليدية والمواد المحلية.
ويتأسف على اختفاء "المدينة القديمة" في عدد من مناطق المغرب، بسبب هجوم الخرسانة المسلحة، مبرزا الحاجة إلى إعداد اليد المؤهلة فنيا وتقنيا في مجال البناء التقليدي، والاستفادة من إعادة تأهيل "الفنادق" (بنايات تاريخية ذات طابع خاص تضم تجمعات لصناعات تقليدية)، والمساجد، والتي أظهرت أنها قاومت الزلزال بشكل جيد، وذلك من أجل وضع سياسة للتدخل في المدينة.
فيما يوصي بناني الخبير في مجال التراث المعماري بإحداث مرصد وطني لمواد البناء المحلية وطرق البناء التقليدية، علاوة على تطوير الابتكار في هذا المواد والتقنيات، ونقل الخبرات الموروثة في المجال إلى طلبة الهندسة المعمارية، وتسجيلها تراثا لا ماديا.
ويضيف أنه حان الوقت لوضع نظام لتأمين البناء بالمواد المحلية، ومراجعة نمط التصميم الخاص بالزلازل في البنايات التي تصنف تقليدية، وتطوير حماية الآثار التاريخية بشكل وقائي.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.