أخر الاخبار

الـثـوابـت الـديـنـيـة للمملكة الـمغـربـية الـشـريـفة

الـثـوابـت الـديـنـيـة للمملكة الـمغـربـية الـشـريـفة


إن الحديث عن الثوابت الدينية للمملكة المغربية الشريفة وتقريب بعض عناصرها الفكرية لعامة الناس هوالمقصود بلفظ الثوابت٬ الاطار الذي استقر عليه العمل بالدين٬ ويستأنس في تأصيل هذا اللفظ بقوله تعالى “يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة”، وفق وكالة الأنباء المغربية.

 وأن وصف هذه الثوابت ب”الدينية” لا يعني مقابلتها بثوابت أخرى غير دينية كما لا يعني أنها تقتصر على مجال العبادة بين المؤمن وربه وإنما يعني أنها تعكس اطارا اجتهاديا للتدين بالمعنى الشامل٬ إيمانا وعملا صالحا مشيرا في الاطار نفسه الى أن لفظ السلف ينطبق على المؤسسين الذين صاغوا هذه الثوابت تأصيلا في الكتاب والسنة باجتهاداتهم حيث تمت صياغة هذه الثوابت زمنيا بين القرن الأول والقرن الرابع الهجريين وفي تبنيها إقرار بجهود الأئمة في بناء العلوم الدينية ورفض اللامذهبية التي تهدف في العصر الحالي الى زرع الفوضى في مجال الإفتاء.

ذات وظــيــفــة تــأطــيـــريــــة

وأن هذه الثوابت حسب ترتيب ظهورها في التاريخ والمتمثلة في إمارة المؤمنين والمذهب المالكي في الفقه وطريقة الجنيد في التصوف والمذهب الأشعري في العقيدة .

و أن هذه الثوابت ذات وظيفة تأطيرية إذ تؤطر أمرين أساسيين هما العمل والإيمان مصداقا لقوله تعالى “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا” أي أن عمل الصالحات في العلاقة بالاستخلاف في الأرض في هذه الآية ينطبق بالخصوص على عمل الأمة وعلى رأسها الدولة في عملها السياسي.

 وأن إمارة المومنين باعتبارها أجل الثوابت وأعظمها منزلة لأنها تؤطر الإيمان والعمل وأصلها في خلافة رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) الذي بلغ الرسالة وعلم الدين وأسس الأمة وأقام الدولة والذي بوفاته تمت الرسالة وبدأت مرحلة جديدة في التبليغ وفي حياة الأمة والدولة على عهد الخلفاء الراشدين الذي ترسخ فيه قيام إمارة المؤمنين على البيعة واكتسبت عمقها في الجمع بين شؤون الدين والدنيا مستعرضا في هذا السياق التطورات التي أعقبت وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وما صاحبها من اغتيالات ومآسي وتمزقات فرقت المسلمين الى فرق استمر آثرها الى يومنا هذا.

غير أن جماعة أهل السنة ٬ عملوا على تجاوز الأزمات المتوالية فقرروا في عقائدهم وجوب نصب إمارة المؤمنين ونصوا على أن الشرط في متوليها٬ العلم والعدالة ومعرفة وجوه السياسة والنسب القرشي وقالوا عن سلطاته إنها تشمل حفظ الدين وحراسة الأرض وعمارة البلدان باعتماد المصالح وإجراء الأحكام واختيار خلفائه.

الإســتــنــاد إلى الـــحــديــــث

والثابت الثاني هو المذهب الفقهي إذ أن المذاهب كلها اتفقت على المكانة الأساسية لمصدري الفقه٬ القرآن الكريم والسنة النبوية الغراء وتميز مذهب عن الآخر في عدد الآليات المستعملة في الاستنباط من هذين الأصلين وترتيبهما في الأهمية مشيرا الى أنه غلب على أبي حنيفة القول بالرأي وغلب على ابن حنبل الاستناد الى الحديث ووضع الشافعي رسالته المنهجية بحثا عن طريق بين أهل الرأي وأهل الحديث٬ أما الامام مالك٬ يؤكد المحاضر، فله وزنه المرموق من حيث العلم والورع ولكون منهجه أشمل وأكثر انفتاحا وتوازنا بخصوص وسائل استنباط الأحكام وسعة أصول مذهبه وتوسطه واعتداله.

إحــســـان الــعـــبــــادة

أمام الثابت الثالث، فيطرح سؤالا مفاده كيف يمكن إحسان العبادة بتحقيق الانسجام بين الظاهر والباطن مشيرا الى أن التصوف خرج أول ما خرج من طائفة أوائل الزهاد وذلك قبل التقاء الفكر الاسلامي بفلسفة اليونان وروحانية الهنود٬ وكانت حياة هؤلاء الزهاد وأحوالهم تقابل وكأنها تحتج عليها أحوالا حياتية أخرى تميزت بالتنافس في طلب الجاه والتقاتل في طلب السلطان وبالتهافت على كسب الثروة وبالرياء في العلم والرضا منه بالقشور.

الــعــقـــيــــدة الأشـــعـــريــــة

وأما الثابت الرابع وهو العقيدة الأشعرية بحيث أن هذا السؤال لم يكن موضوعا في عهد رسول الله (ص) حيث جاء يقول “أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا” فكان إيمان من تلقوا دعوته صافيا بسيطا تلقائيا وكذلك كان الأمر في عهد خلفائه قبل الفتنة والتفرق مشيرا الى أنه لما ظهرت الفرق من خوارج ومعتزلة ورافضة وغيرها لم يقف أصحاب هذه الفرق عند المعارضة السياسية بل أحدثوا كلاما حول فهم ألفاظ وردت في القرآن ، تتعلق بالله والانسان وأن أهل السنة والجماعة كانوا في البداية غير مقبلين على تعاطي الكلام وهو العلم الخائض في هذه القضايا فتجرأ عليهم أهل الفرق بالاستفزاز والتشويش الى أن قيض الله رجلا تمهر في صف المعتزلة في الكلام ثم عارضهم وهو أبو الحسن الأشعري.

تــأصــيــــل الـــثــــوابـــــت

وأن تأصيل الثوابت قد تم تفعيلها والتفاعل معها في تاريخ المغاربة أولا من خلال إمارة المؤمنين حيث كان المولى إدريس بن عبد الله٬ الذي لجأ إلى المغرب ونجا من القتل في موقعة فخ قرب مكة٬ أول أمير للمؤمنين بويع خارج نطاق الحرب والانقلاب بعد الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل.

وعلى أن بيعته كانت اختيارا طوعيا ذكيا متجليا في أربعة مظاهر تتمثل في أن إمارة المؤمنين أعطاها المغاربة لآل البيت المضطهدين على أساس بناء صرح لدولة السنة في غربي الدولة الإسلامية٬ وأنها شكلت القطب الذي خلق الانسجام في ضمير المغاربة بين السياسة والدين٬ وأنها اتخذت صبغة روحية مصدرها التعلق بآل البيت وهو تعلق خلاق للتعبئة الوطنية٬ كما أنها شكلت القطب الذي تبلور حوله بناء الدولة في استمرارها والأمة في وحدتها والمجتمع في تعدديته.

ولاحظ أن الأمازيغ قد تداولوا إمارة المؤمنين في قرون إمبراطورياتهم بنفس المضمون والرسوم٬ وانه عندما أعاد المغاربة الأشراف السعديين ثم العلويين إلى إمارة المؤمنين٬ والمغرب يتعرض لضغوط أوروبا في بداية العصر الحديث٬ لم ينظروا إلى هؤلاء الأشراف على أنهم من جنس العرب٬ وإنما اعتبروا حماهم الروحي وأقروا عن تجربة بنجاعتهم السياسية في التحكيم.

الــمـــذهــــب الـــمـــالــكــــي

وأن المذهب المالكي شكل ثاني مظهر للتفعيل والتفاعل مع تأصيل الثوابت حيث دخل مع إمارة المؤمنين في وقت واحد إلى المغرب على أيدي الأدارسة٬ وذلك لما وفد أعلام من العرب على المولى إدريس الثاني عام 189 هجرية أي بعد عام على بيعته٬ كان بينهم عامر القيسي وقد وصف بأنه كاهن أهل الورع والدين وسمع من الإمام مالك وروى عنه كثيرا٬ قد ولاه المولى إدريس القضاء٬ مشيرا إلى أن في استقضائه تكريس رسمي للمذهب المالكي٬ وكان المغاربة قبل ذلك يبحثون عن وجهتهم المذهبية عند أصحاب أبي حنيفة وغيره٬ وفي هذا يخالف قول ابن خلدون إن تبني المذهب كان بسبب تردد المغاربة على المدينة لا على العراق حيث ظهرت المذاهب الأخرى.

و أنه مع توالي القرون دخل المذهب في كيان الدولة كمرجع وآلية لقيام إمارة المؤمنين بواجبها في حماية الملة والدين كما استعمل الفقهاء روح المذهب ومنطقه لإدماج عدد من العادات الثقافية المحلية وكان المذهب عنوان وحدة الأمة بالعمل به في المساجد والمحاكم على السواء.

تــصــــوف الجــنـــيــــد

 وأن التفاعل الثالث مع تأصيل الثوابت يتمثل في تبني ثابت للتصوف خاصة تصوف الجنيد حيث نجده عظيم الأثر على الكيان الجمعي والأخلاقي والحضاري٬ إذ أثمر شفوفا مثلته نماذج بشرية راقية من العامة ومن العلماء على السواء٬ مبرزا أن المشرب الصوفي المغربي مصحوب بالصحو، في أجوائه يتعلم الناس المودة والرحمة والصبر وكل ما يشمله مفهوم “الوسع” من فقه وفتح وتحمل٬ لافتا إلى أن هذا التصوف امتد إشعاعه عبر القرون إلى آفاق القارات ولاسيما عبر شرايين الأجسام الكبرى الثلاثة الشاذلية والقادرية والتجانيية.

أما رابع مظاهر تفاعل المغاربة مع تأصيل الثوابت٬ فيتمثل في العقيدة الأشعرية حيث دخلت علوم الاعتقاد إلى المغرب مع الحضرمي المعروف بالمرادي الذي توفي قاضيا في أطار بشنقيط وعنه أخذ الكلبي الضرير المتوفي بمراكش عام 520 هجرية أي قبل وفاة ابن تومرت بأربع سنوات٬ مشيرا إلى أن عودة السلطة للمذهب وفقهائه في العهد المريني عاد التوحيد يدرس للعامة على الأساس الأشعري وتوالي حضور النظار العارفين بقضايا أصول الدين مع توالي العصور إلى أن جاء ابن عاشر في نهاية القرن التاسع وتحدث عن الثوابت كمنظومة مترابطة ولم يذكر الإمامة العظمى لأن نظمه وضع للمبتدئين٬ ومبحث الإمامة اختصت به كتب أصول الدين الموضوعة للمتقدمين.

صـــفـــة الــجـــمـــع

 وأن لكل ثابت من الثوابت الأربعة صفة مشتركة وهي صفة “الجمع”٬ فإمارة المؤمنين قد جمعت بين النسب الشريف وبين المذهب السني٬ والمذهب المالكي قد جمع بين الاستناد إلى النص وبين إعمال الرأي عند الضرورة٬ والعقيدة الأشعرية قد قامت على الاعتدال بين التشبيه والتنزيه بين الأثر والتأويل٬ والتصوف الجنيدي قد جمع بين الشريعة والحقيقة.

 وأن المنطلق هو أن الأغلبية العظمى من الأمة مطمئنة إلى دينها وحياتها في إطار الثوابت غير أن أطرافا في المجتمع تعبر أو تتصرف وكأن لديها مزيد حاجة إلى فهم هذه الثوابت وللصادقين منهم حق في الشرح والبيان وأسئلتهم في نظره ثلاثة أسئلة من ثلاثة منابع ٬الهوية والحداثة والزمنية.

 وأنه من غير المفيد إعادة الكلام عن الثوابت الدينية إلى طاولة الاختيارات ولاسيما في الجانب العقدي والمذهبي لأن ذلك سيعيدها إلى درجة الصفر أي إلى جذورها في السياسة٬ مشددا على أن الضرورة تقتضي نوعا من مأسسة هذه الثوابت٬ حيث أنه بفضل توجيهات أمير المؤمنين تم قطع أشواط في هذا الاتجاه وذلك بإصدار عدد من الضوابط القانونية التي تهم الشأن الديني وجاء الدستور الأخير ليكرسها في جانب مؤسسة إمارة المؤمنين واختصاصها في تدبير هذا الشأن.

 وأن آفاق النموذج المغربي في علاقة الدين بالسياسة يقوم على التوازي بين المؤسسات السياسية والثوابت الدينية وحماية تلك الثوابت بالدستور٬ مشددا على أن المهمة الأساسية التي تبقى في مواكبة هذه السيرورة التاريخية هي مهمة العلماء في شرح الثوابت شرحا دينيا سياسيا واضحا في ضوء الأثر والتاريخ والمقاصد ومقتضى التنزيل على حال العصر.

الدكتور أحمد التوفيق 

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -