عبداللطيف هسوف
سنة 108 قبل الميلاد، قرر الرومان إرسال تعزيزات عسكرية ضخمة لغزو بلاد النوميديين في العمق. استطاع الرومان تطويق مدن بالجنوب، لكن السكان فضلوا إحراق كل ممتلكاتهم وما تحتويه مدنهم من ذهب وفضة، بل أحرقوا أنفسهم مفضلين بذلك الموت عن خضوعهم للرومان. وفي صيف 107 قبل الميلاد، أحرق الرومان قفصة، قتلوا كل الرجال وصيروا النساء جواري والأطفال عبيدا. وفي ربيع 106 قبل الميلاد، جابت تجريدة عسكرية رومانية حدود بلاد النوميديين وبلاد الموريين بالقرب من نهر ملوية واستولوا على كل كنوز يوغرتا التي أخفاها هناك. أمام هذا الغزو، تحالف ملك النوميديين يوغرتا مع ملك الموريين بالمغرب الأقصى صهره بوكوس الأول بعد أن أقنعه بأن الرومان شعب ظالم ومتوحش، عدو للإنسانية، لا يهمه سوى بسط سيطرته على الآخرين، فاليوم يوغرتا وبالأمس الملك الأماويغي سيفاكس وجنرال قرطاجة هنيبعل وغدا كل من تقوى من زعماء شعوب شمال إفريقيا.
تحرك الملكان الأمازيغيان بجيوشهما اتجاه قسنطينة التي احتلها الرومان بعد أن جعلوها مخزنا لغنائمهم ومعتقلا لسجنائهم من شعب الأمازيغ المساند ليوغرتا. دارت حروب عديدة كاد ينتصر فيها البربر، لكن بوكوس الأول رأى أن يسلك طريق الديبلوماسية والحوار ضدا عن يوغرتا الذي ظل متمسكا بضرورة مواصلة الحروب ضد القائد الروماني ماريوس. مرة أخرى، نجح الرومان في إقناع بوكوس الأول ملك الموريين بالتحالف معهم لإنهاء الحرب (سياسة فرق تسد). أليست الحرب خدعة؟ أليست الحرب كر وفر وصلح ووقف للقتال؟ بسبب ذلك ألصقت بالملك بوكوس الأول في كتب التاريخ تهمة الغدر بحليفه وصهره أكليد يوغرتا. هل هو غدر أم هي حكمة لقلب التحالفات أمام قوة الرومان العاتية؟
ورث بوكوس الأول مملكته عن الزعيم باكا (Baga)، لكنه اغتنم فرصة انهزام يوغرتا أمام الجيوش الرومانية ليستولي على الجزء الغربي من مملكة المازيليين بالجزائر. وقد مارس الملك بوكوس الأول سلطته المطلقة في حدود قدراته العسكرية، وفي حدود التعامل مع العصبيات القبلية. كان له مجلس شورى من الأقارب والأصدقاء وبعض زعماء القبائل، وكان له ديوان للكتابة ولتدبير شؤون الجيش. كان بوكوس الأول ينتقل بين عواصم عديدة، نذكر من بينها تينجي (طنجة) وسيكا وتامودا ووليلي. سك النقود باسمه وعين خمسة سفراء للاتصال مع روما وأسند قيادة العمليات العسكرية لابنه فوليكس (Volux).
توفي بوكوس الأول ما بين سنة 80 و70 قبل الميلاد، ثم انقسمت المملكة بين ابنيه إلى شطرين، حكم الشطر الأول بوكٌوس الثاني، وحكم الشطر الثاني بوكَود. كلاهما كانا حليفين قويين للجنيرال سيزارالروماني ضد ملك المازيلي جوبا الأول الذي حالف السينا بروما. حين قتل سيزار، اختلف رأي الأخوين ليناصر بوكود الجنيرال أنطوان ويتبع بوكوس الثاني أوكتاف حاكم روما. وفي سنة 38 ق.م قتل بوكٌوس الثاني ليستأثر أخوه بوكود بالملك بعد أن انتصر أوكتاف على أنطوان. ولما توفي بوكود سنة 33 ق.م لم يترك عقبا يخلفه، فبسطت روما نفوذها السياسي على موريتانيا الطنجية، وولت عليها الأمير جوبا الثاني سنة 25 ق.م الذي سهرت على تربيته بعد أن تعهدت به إثر وفاة أبيه جوبا الأول منتحرا.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.