أخر الاخبار

هل باع السلطان عبد الحفيظ المغرب ب 500 ألف فرنك؟

هل باع السلطان عبد الحفيظ المغرب ب 500 ألف فرنك؟

السلطان مولاي عبد الحفيظ يوقع على وثيقة الحماية - 30 مارس 1912


هل باع السلطان عبد الحفيظ المغرب ب 500 ألف فرنك؟

انتصرالسلطان مولاي عبد الحفيظ على خمسة من إخوته نازعوه الملك وكان فقيها مؤلفا واليوطي كتب أنه تسلم عقد الحماية الموقع من السلطان في نفس اللحظة التي تسلم فيها هذا الأخير الشيك والواحد منهما يمسك بأطراف الوثيقتين في نفس الان، بين الجلباب والبلغة المخزنيتين وبين البذلة الأوربية والسيجار، وبين الدخول في قلب السجال الفكري السلفي كسلطان مفكر، وبين محاولاته للتخلص من شروط "الخزيرات" التي وقعها أخوه مولاي عبد العزيز." 

هذه حكاية سلطان استثنائي ومسار مفكر جلس على أريكة السلطة: بويع السلطان مولاي عبد الحفيظ بيعة مشروطة اعتبرت اللبنة الأولى لـ"سلطة دستورية"، وكان معارض شرسا للمستعمر، قبل أن يوقع وثيقة الحماية ويتنازل عن العرش، فحسبه. داء العطب قديم. 

هل باع السلطان عبد الحفيظ المغرب ب 500 ألف فرنك؟

"لا يجب ان ننكر الرقص وحده، بل الواجب أن نقوم الان بمجاناة الذهب وظروف النشوى المذهبية ومجادل الحرير فنزيلها". هكذا جادل محمد بن عبد الكبير الكتاني السلطان مولاي حفيظ بطريقة لا تخلو من جسارة وندية، حينما شجب السلطان الصوفية وأدان النوافل والجدبة واستعمال الالات الموسيقية. 

وحسب الباقر حفيد شيخ الزاوية الكتانية، فإن جده يقصد السلطان عبد الحفيظ صراحة، لاسيما وقد كان بيد مولاي حفيظ:"حق نشوى من الذهب وعليه مجانة ذهبية وحمالة حرير" كما ينقل حفيد الشيخ بكثير من التفاصيل المثيرة في كتابة الشهير "ترجمة الشيخ". 

بل وصل الأمر بالكتاني إلى تحدي السلطان عبد الحفيظ في أمور تمس مباشرة وظيفته كأمير للمؤمنين، وإلى أن يقول للسلطان في حضرة العلماء: "ثم نخرج فلا نمر بطريصقنا على محل من محال البغي ولا مخمرة إلا سددناها، ثم لا نمر على صاحب دكان لا يعرف كيف يبيع ويشتري غلا أقمناه، فإذا وصلنا للزوايا بحثنا في بدعهم ومناكرهم كذلك، وإما إغضاء الطرف وإحداث التوجيهات لكل محرم ومكروه، غلا التصوف والصوفية فمن غير مفرق وتخصيص بدون تخصص". 

يخبرنا حفيد المتاني ان رد فعل مولاي عبد الحفيظ كان عنيفا، حيث "قام السلطان غاضبا، في حين نزل الشيخ الإمام ساخطا" (الباقر الكتاني، ترجمة الشيخ .ص 214،215) تخيلوا، مولاي حفيظ السلطان المطلق الذي كان ينشط دروسا حديثية يحضرها عدد مهم من صفوة العلماء، فإذا بأفكاره تتعارض أكثر مما تتلاقى مع الشيخ. 
فارع الطول، عظيم الهيأة، ممتلئ الجسم يميل إلى البدانة، الصور التي بين أيدينا على الأقل تؤكد ذلك. 

وهنا لا بأس من التذكير ببعض القصص والحكايات التي نشرت عن أجداد السلطان عبد الحفيظ من سلالة العلويين، والتي لا تخلو بعضها من أسطرة وإعجاز يكاد يميل إلى الخرافة، فهذا مولاي امحمد مثلا الذي يعتبر أول سلطان علوي اعتلى العرش بعد نجاح جده الأكبر مولاي الشريف في مزاحمة السعديين وبداية سحب بساط الحكم من تحت أقدامهم، وهو السلطان الذي حكم المغرب في الفترة مابين 1635 و1644، وقج قتل في معركة دارت بينه وبين شقيقه المولى الرشيد. حكى الكثير عن السلطان امحمد هذا حول اهتمامه بالأدب وعن بنتيه الجسدية الشبيهة بالبنية الجسدية للسلطان مولاي حفيظ أحد حفدة الأسرة العلوية الحاكمة، الشيء الذي يلتقي مع بعض من ملامح السلطان الذي نرسم صورته والحالة هاته، قيل إنه كان فارع الطول، قوي الجسم إلى الدرجة التي يصفه فيها الناصري صاحب كتاب الاستقصا، برواية لا تخلو من غرابة:" حكي أنه في بعض أيام حصاره على تبوعصامت جعل يده في بعض ثقب الحصن وصعد عليها ما لا يحصى من الناس كأنها خشبة منصوبة ولبنة مضروبة، وكان سخيا جدا، حتى أنه أعطى الأديب الشهير المتقدم في صناعة الشعر المعرب والملحون.. رطلا خالصا من الذهب جائزة له على أمداحه فيه، وحكايته في هذا المعنى شهيرة". 
(المجلد الثالث ص 23). 

بجلابته المخزنية، وعمامته الحريرية ولباسه الأبيض الخاطف للأبصار الذي يتنافس في تمييز نصاعة بياضه، من جهة شريط أحمر يغطي جبهة السلطان، ومن جهة أخرى البلغة الفاسية الصفراء اللون، وهي غالبا البلغة التي – يقول التقليد المخزني بألا يلبسها السلطان مرتين أبدا- حسب غابريل فير مصور شقيقه مولاي عبد العزيز الذي سبق مولاي حفيظ إلى الجلوس على كرسي السلطنة ( قي صحبة السلطان 2009 ص 135). 
فصيح اللسان، قوي الشخصية، لم يكن يخوته لا الذكاء السياسي ولا فن الخطابة، كانت للسلطان صاحب الدروس الحفيظية هيبته. هو سلطان الجهاد، الفقية والسياسي والعالم والشاعر والأديب والمفكر الذي خلع أخاه من العرش باسم مواجهة المستعمر ومكافحة الفساد ودسائس السلطة ومفسدة السياسة. 

ولنعد إلى المشهد الذي لا يخلو من مقاطع غرائبية. 

السلطان الذي يبسط أقصى سجادات الوقار والإجلال للشيخ الكتاني في اجتماعات التشاور مع أهل الحل والعقد، يتعرض على يده بواحدة من حلقات النقاش الفكرية إلى المساءلة. 

"... وفي هذه الدروس كانت الأفكار تتلاقى وتتعارض، فهناك السفلي المتفتح، وهناك العام المتصوف، وهناك السياسي الأديب، وهناك الفقيه الأديب، ومع هؤلاء كان يوجد خدام المخزن وموظفوه وقواده. وفي هذه المجالس الحديثية كان الحاضرون يشهدون احتداد التعارض حول بعض المسائل الاعتقادية بين السلطان والشيخ، كمسألة الزيادة على أربع زوجات، ومسألة حياة الأنبياء، وإذا أبرزت ظاهرة إيجابية من إيجابيات العهد الحفيظي، فإنها أدت إلى توترات وإلى صراعات فكرية ومذهبية فكان السلطان ومؤيدوه في جانب وفي الجاتب الاخر كان الشيخ وأتباعه. ذلك أن السلكان كان ينكر حياة الأنبياء في دروسه، ويتمذهب بالمذهب الظاهري في الزيادة على الأربع، وينكر حلقات الذكر "الرقص" (الدكتور علال الخديمي: الحركة الحفيظية بالمغرب قبيل فرض الحماية، الطبعة الأولى 2009 ص: 359) 

يؤكد "ميشو بيلير" على أن الكتاني كان يناور خلال تلك الفترة من أجل استرجاع عرش الأدراسة، أي أنه كان في نيته خلع السلطان وإعلان نفسه خليفة بدله. في حين يرى عبد الله العروي أن الأمور أخذت منحى أكثر وضوحا: "كان مولاي عبد العزيز قد كف فعليا عن ملء وظائف السلطان كما تحددها نصوص البيعة. فمن كان مهيأ لخلافته؟ طبعا محمد بن عبد الكبير الذي كان يقوم بالمهمة داخل فاس، أو أي شخص اخر له مؤهلات أحسن". (محمد الطوزي، الملكية والإسلام السياسي في المغرب: الطبعة 99 ص 57). 

تطول حكايات السلطان مع الكتاني، ولا يسعنا المجال لسرد كل تفاصيلها المثيرة، لكنها تعطينا صورة دالة عن شخصية السلطان مولاي حفيظ التي تكاد تكون نقيضة لصورة شقيقه مولاي عبد العزيز. 

لكن، الثابت أن نهاية الشيخ الكتاني وباقي أفراد عائلته كانت أكثر من درامية، على يد السلطان مولاي عبد الحفيظ  الذي انتقد سياسته وفر إلى قبلية بني مطير، لأسباب يظل الخفي فيها أكثر من الظاهر، فقد أدخل الشيخ مع أبيه وأخيه وابنه البكر إلى السجن، بل وتعرض شيخ الزاوية الكتانية للجلد حد الموت في ماي 1909 على العهد الحفيظي، وضيق الخناق على اتباع الزاويا الكتانية ومنع التظاهر بشعائرها إلى غاية تنحي مولاي حفيظ عن الحكم، أي إلى غاية حكم مولاي يوسف. 

لا يمكن فهم شخصية السلطان مولاي عبد الحفيظ دون العودة إلى شقيقه مولاي عبد العزيز، والمقارنة بين السلطانين. 

ويكفي أن تذكر "الأيام" القارئ بهذا الصدد، أنه في الوقت الذي كان يقضي فيه أخوه الأصغر مولاي عبد العزيز "السلطان الصغير" نهارات يومه متبطلا هني البال مهووسا بأنواع الدراجات والسيارات وكذا ألات التصوير، التي أغدقها عليه الإنجليز، كان مولاي عبد الحفيظ يعكف على مزيد من الإبحار في علوم السياسة والفقه والشعر، بالإضافة إلى تمرسه على المهام الإدارية والعسكرية. ولتبين الفرق ما عليكم إلا العودة من جهة إلى مذكرات مصور السلطان عبد العزيز التي رصد فيها يوميات خلف السلطان مولاي الحسن مدلل أمه للا رقية، ومن جهة أخرى إلى الكم الهائل من المراجع التي ألفها السلطان مولاي حفيظ سواء حينما كان خليفة لأخيه في مراكش أو قبلها عندما كان طالبا، وحتى حينما اعتلى العرش. 

فلما توفي السلطان مولاي الحسن سنة 1894، كان عيد الحفيظ مهيأ ليخوض مجال الحياة العامة وهو مسلح بسلاح المعرفة، مستعينا بما راكمه من التجربة الميدانية العسكرية والحذاقة السياسية. 

نحن أمام شخصية غير عادية، تتمتع بالكثير من الذكاء والدهاء السياسي، وهذا ما سنلمسه ونحن نقترب أكثر من شخصية واحد من أبرز السلاطين العلويين. 

عكس مولاي عمر شقيق مولاي عبد العزيز، لم يعارض مولاي عبد الحفيظ بيعة أخيه الأصغر، أي أنه لم ينقلب ضد ما فعله أحمد بن موسى، ولعل هذا ما جعل الصدر الأعظم والرجل القوي في عهد السلطان عبد العزيز أبا حماد يعتمد على مولاي حفيظ في تولي مهمات إدارية وعسكرية عديدة. 

فلما قرر باحماد مثلا إرسال حركات إلى سوس لإعادة الأمن وتعيين شيوخ يحظون برضى قبائلهم، بعث مولاي عبد الحفيظ خليفة عن المخزن على رأس محلة كبيرة، لدعم القواد والحركات المرسلة للجنوب. 

جرت العادة في أعراف وتقاليد السلاطين الذين تعاقبوا على حكم المغرب، ولاسيما سلاطين الدولة العلوية، أن يعينوا خليفة ينوب عنهم في إحدى عواصم البلاد لاسيما مراكش وفاس، وكان بلاط الخليفة في العادة، يتألف من قائد للمشور بمثابة وزير يكون عينا له على كل أمور الخلفية الإدارية والسياسية، وكانت مهمة الخلفية محددة. 

هل باع السلطان عبد الحفيظ المغرب ب 500 ألف فرنك؟

كان على الخلفية أن يخرج لصلاة الجمعة ولصلاة العيدين، أما البروتوكول المتبع فلم يخرج عن هذا الإطار: عندما يريد الخليفة الخروج لصلاة الجمعة أو لصلاة العيدين أو لأجل تعمير المشور، يقف المشاورية وأصحاب المكاحل من الجيش لتحية الخليفة وعند انتهاء المهمة ينصرفون لأماكنهم، إذ لم تكن للخليفة سلطة على الجيش، الذي كانت قيادته من اختصاص باشا القصبة. 

إنه الوصف الذي يقدمه كتاب من فئة تربو عن الـ500 صفحة للدكتور علال الخديمي الذي برع في تحليل فترة حكم السلطان عبد الحفيظ. 

وما عليكم إلا أن تتصوروا خلفية للسلطان من عيار شخصية عبد الحفيظ تتبينوا الحجم والمساحة اللذين سيحتلهما في مراكش. 

فقد واقتدار سياسيين كبيرين، وعرف كيف يقوي نفوذه ويتجاوز الكثير من العقبات في كل الظروف والتقلبات إلى أن اعتلى عرش المغرب.

فكيف انقلب خلفية السلطان على أخيه وتربع على العرش؟ 

بدأ كل شيء حينما اتسعت في الحوز شهية بعض القواد الطامعين في جيرانهم، لاسيما حينما عارض مولاي حفيظ خط بعض القواد الكبار منهم مثلا الكنتافي، وبدا وكأنه متحالف مع منافسي هذا الأخير وهما عبد المالك المتوكي والمدني الكلاوي. 

ويخبرنا علال الخديمي أن الكنتافي سينجح في بداية سنة 1906 في استصدار ظهائر له من بلاط فاس والمتعلقين به من القواد بالولاية على عدة قبائل، ومنها قبيلة أوريكة التي عزل عنها القائد ابن القرشي الوريكي. 

وعند هذا الحد نشط حلف المتوكي والكلاوي ويسندهما خلفية السلطان لعرقلة مخطط الكنتافي وإجهاضه. فكيف جرى ذلك؟ 

هنا، وفي هذه المحطة بالذات ستنشط الدسائس والمكائد، التي سيفطن بها خليفة السلطان مبكرا. 

فخلال هديته المعتادة والواجبات التي جمعها من إيالته، استطاع أن يقنع المخزن بأن أكبر دليل على تأمر المتوكي والكلاوي ومعهما مولاي عبد الحفيظ هو غياب القائدين المذكورين عن حضور حفلات العيد مع السلطان، كما اتهمهما بالتقاعس عن جميع جبايات قبائلهما، والأكثر من هذا اتهم قائد كنتافة الخلفية بأنه "يريد القيام والمخالفة" أي الثورة على السلطان. 

أما نهاية المخطط فكانت تقضي بعزل الخليفة.وبالفعل استجاب السلطان لمقترح الكنتافي وأصدر حوالي 15 ظهيرا بالعزل والتولية في مجال امتد من دمنات في الشرق إلى حاحة في الغرب. 

وحصل الكنتافي لنفسه على قيادة أوريكة التي عزل عنها منافسة ابن القرشي الوريكي، وعلى مراقبة تمصلوحت وزواياها. كما أصدر السلطان أمرا بمصادرة دور السكتانيين بمدينة مراكش ومنحها للكنتافي وأمر الخليفة بشد عضد باشا المدينة عبد السلام الورزازي لينفذ الأمر السلطاني لصالح الكنتافي. وصدرت الأوامر للمدني الكلاوي بالتخلي عن قبائل فطواكة ومسفيوة، وللمتوكي بالتخلي عن عدة قبائل وخاصة أولاد بوسبع. 

وهكذا بدا للمراقبين في ربيع 1906 أن خطة الكنتافي أصبحت قاب قوسين أو أدتى من النجاح، وكان نجاحها يعني تحطيم عدويه المتوكي والكلاوي ومعهما الخليفة مولاي عبد الحفيظ، إذ كان واردا انتهاز الفرصة وإسقاطه وتعيين أخيه مولاي عمر في مكانه. 
لكن، ستمشي رياح السلطان عبد العزيز التي حركها قائد كنتافة في غيرما اشتهت سفنهم. وإليكم السبب: 

كانت لخليفة السلطان في مراكش عيون واذان على كل ما يجري في بلاط فاس، لدرجة أنه كان يطلع على كل صغيرة وكبيرة، إلى الحد الذي يجعل رسائل منافسيه وأعدائه تنسخ أحيانا أو ترسل إليه الكنتافي وحزبه له بالتطلع للملك. 

لهذه الأسباب حرص المتوكي والكلاوي على الحفاظ على شعرة معاوية مع المخزن المركزي، أولا من خلال تعجيلهما بتبرير الأساليب التي أدت إلى عدم حضور حفلات العيد، وثانيا إرسالهما لبعض الأموال الواجبة للمخزن، وثالثا محاولة نفي واستبعاد أي تنسيق محتمل لهما مع خلفية السلطان أو لجزئهما للاحتماء به. 

وفي نفس الآن، ضافرا جهودهما لتنحية الكنتافي، وهكذا نجح اتباعهما في طرد اتباع الكنتافي من أكركور وامزميز، كما نجحت دسائسهما في إثارة أعيان كدميوة وسكتانة ضد حكم الكنتافي. 

وإذا كانت تصرفات المتوكي والكلاوي تجري بتنسيق مع خليفة السلطان، فإنه حرص على ان يقف موقف المحايد، وأن لا يفتح عيون القواد على التوسع، لأن تصادم الأطماع لا ينتج إلا الاضطراب وانتشار النعرات القبلية، وانسجاما مع هذا الموقف نجد مولاي عبد الحفيظ يقرر عدم استقبال الكنتافي أو مساعدته على تنفيذ ما جاء به من قرارات سلطانية، الشيء الذي رفع منسوب التوتر بينه وبين المخزن أي بينه وبين أخيه مولاي عبد العزيز، حيث سيعتبر عدم وقوف الخلفية مع الكنتافي دليلا على الرغبة في عصيان السلطان. 

وخلاصة الدسيسة تلو الأخرى، وفشل المخزن في فرض الظهائر التي استصدرها لصالح الكنتافي، أن قواد الحوز، وفي مقدمتهم المدني الكلاوي وعبد المالك المتوكي، سيتمسكون أكثر بالتنسيق مع خلفية السلطان، الكنتافي في مخزن مولاي عبد العزيز. 
لقد حول مولاي عبد الحفيظ مفعول الظهائر السلطانية برفضها إلى العدم، وبرز كرقم أساسي في معادلة التوازنات والتحكم في الأطماع في الحوز. 

عزل مولاي حفيظ الكنتافي وأقفل عليه كل المنافذ التي تسهل عليه التوسع في الحوز، بل حاصره في الجبل وهو يحاول تحييده وتنفيذه مخطط السلطان في تنحية خلفيته في مراكش وتعيين شقيقه مولاي عمر مكانه. 

ومرة أخرى يسجل التاريخ تكرار تجربة تنازع أبناء السلطان الواحد على الملك داخل الأسرة العلوية المالكة.

فمن يكون عمر؟ 

يقدمه المؤرخ عبد الرحمان بن زيدان بصفته الأمير الذي أمر بعد إعلان وفاة السلطان مولاي الحسن، بتقديم الدعم المعتاد عند المخزن، وهو السلاح والفرس بسرجه والسيف لكل قائد. 

الأكثر من ذلك، شرع الخليفة خلال شهر يوليوز في زيارة أولياء المدينة سرا، وهذه الزيارة لم يكن يقوم بها إلا الملوك عندما يريدون مغادرة المدينة. 

ولما أصبح خلع مولاي عبد العزيز شبه مؤكد، فقد خرج السلطان من فاس قاصدا محاربة أخيه بمساعدة المستعمر الفرنسي لكنه انهزم عسكريا، وبعد أن عجز في المعركة تلو الأخرى، قرر التخلي نهائيا عن كل محاولة أخرى للحفاظ على عرشه، ثم انسحب إلى طنجة ليستقر بها إلى غاية وفاته سنة 1943. 

لكن، المستعمر سيخرج أكثر من ورقة لإرهاقه، بما في ذلك أوراق أشقائه الذين سينازعونه السلطة. 

حارب إخوته مولاي عمر، فمولاي امحمد ثم مولاي الكبير الذين حاولوا التضييق عليه للاستفراد بالحكم، مدعومين من طرف الفرنسيين الذين وجدوا في سلطان الجهاد في بدايات حكمه مفاوضا عنيدا وصلبا وشريكا مزعجا. 

سينتصر السلطان مولاي حفيظ على خمسة من إخوته، وجميعهم حملوا السلاح في وجهة، مولاي عبد العزيز أولا، مولاي أمحمد ثانيا، ومولاي عمر ثالثا، وعبد الرحمان رابعا، ومولاي الزين خامسا وهو أخ السلطان في أبيه الذي بويع سلطانا في مكناس في 17 أبريل 1911، وقد نجح في تضييق الخناق على فاس، وهو بالمناسبة شقيق مولاي امحمد من نفس الأم، الذي سبق له أن حاول سحب بساط السلطنة من مولاي حفيظ لكن، حتى مولاي الزين سينتهي به المطاف في 8 يونيو 1911 إلى التواري بعد أن أخضعه جيش الاحتلال والسلطان معا، ليعلن ولاءه لأخيه، ففي هذه المرحلة كان سلطان الجهاد قد دخل في فترة مفاوضان ديبلوماسية مع فرنسا، أربع سنوات كانت كافية كي تتراجع هيبة سلطان الجهاد، ويتبدد الأمل الإستعماري، إذ سيخضع لضغوط الفرنسيين ولشروط الحكومة الفرنسية، وسيجد نفسه في وضع شبيه بذلك الذي وجد عليه أخوه مولاي عبد العزيز في خريف 1907. لم يكن وحده الضغط الاستعماري وفراغ الخزينة المالية والديون المتراكمة الأسباب التي أدت إلى تراجع شعبية العهد الحفيظي، فلم ينجح في الالتزام بأغلب شروط البيعة الحفيظية، إذا لم تراع البيعة الحفيظية مثلا ما اشترطته من إلغاء المكوس وتحقيق العدل بين الناس، وهكذا برزت انتقادات عديدة للسياسية الجبائية للسلطان. 

لقد بالغ القواد في إرهاق المغاربة بالضرائب بعد أن تم التراجع عن الترتيب الذي سنه العهد العزيزي، وكف العمال عن الدخول في الخطط الشرعية، أي فصل السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية، لأن الجمع بين السلطتين في يد القواد مدعاة للاستبداد وتجسيد لأبشع صور الاستغلال السلطوي، وهذا ما نجد له مرجعا في شكاية قبيلة سفيان مثلا "الروكة والبحان" الذين يستشهد بوضعيتهم المتردية علال الخديمي في كتابه (ص:456) "إن القائد اليسفي أكل القبيلة وعراها، ولم يترك فيها من هو في وجهه الدم، لأنه يفرض الفريضة في كل شهر، نحو العشرين الف ريال "الريال: المسكوك الحفيظي"، وتنضض (تجمع) حينا. يأذن الأشياخ بالملاقاة (كذا) مع أخيه الخلفية وأولاده كل واحد وملقاه، فرض مائتي انية مملوءة سمنا وفرضت وتخلصت وقال الجانب المخزن رعاه الله. تخلص في ألف كبش. ومن لم يجد شيئا فليبق في السجن وهذا من غير الذعائر". 

أما سلطان الجهاد نفسه فقد كانت له وجهة نظر أخرى يفسرها لكل المعترضين على دفع الضرائب المرهقة قي كتابه "داء العطب قديم" :فالواجب على المعترض أن يعلم أن المغارم قسمان: قسم يقوم به واجب الديانات وهو الزكاة والأعشار، وقسم تقوم به المصالح العمومية، كجلب الالات المدفعية والمراكب... وإذا لم تكن الجباية الثقيلة فمن أين يكون ذلك؟" (داء العطب قديم ص:14) 

وتوالت الشكايات دون أن تجد لها صدى لدى سلطان الجهاد، خاصة بعد أن قورنت الإصلاحات الضريبية بين تلك التي نهجها سلفه مولاي عبد العزيز وبين خلفه. 
وهكذا كان منطلق سوء التفاهم بين مخزن مولاي عبد الحفيظ من جهة، وبين الرعية من جهة أخرى، من هذه التصرفات الإدارية المرتبطة بالجباية في المقام الأول. 

السلطان يدق عملة حفيظية ستبلغ الأزمة ذروتها في العهد الحفيظي مع العصيان القبلي سنة 1911، حيث كثفت القبائل التي ساءت علاقتها بالمخزن من اجتماعاتها، وخاصة القبائل المجاورة لفاس ومكناس، ولعل أهم اجتماع هو ذلك الذي انعقد في 22 فبراير 1911، بقرية أكوراي، وقد ضم وفودا من بني مطير وجروان وأزمور وبني مجيد وزعير، وقبائل أخرى من الغرب مثل الشراردة وبني حسن وبعض الشرفاء. 

وحسب الدكتور علال الخديمي، فقد اتفقت هذه القبائل على مواجهة المخزن، وبعثت وفدا إلى قائد قبيلة زيان وأعيانها لمواجهة التهديدات الفرنسية:" وأهم ما اتفق عليه المجتمعون في ما يتعلق بالمخزن، هو قتل الكلاوي واختطاف السلطان، خلال احتفالات المولد النبوي" (مارس 1911) (نفس المصدر:467) 

ولم يكن تمرد القبائل والزحف نحو فاس وانتفاض القبائل ضد عجز سلطان الجهاد عن مواجهة الأطماع الإستعمارية حول المغرب، إلا بدايات نهاية العهد الحفيظي، لاسيما بعد أن بلغت تعسفات جيش الإحتلال حد منع الجنرال ديت الرباطيين من الدفن في مقبرة لعلو، وتشييد براريك للجند على جثث المدفونين فيها، وكذا منع النساء من التصبين، بلغ الأمر حد اقتحام ضباط الاحتلال لحرم السلطان وإحصاء من فيه سواء في مكناس أو في فاس: (الحركة الحفيظية ص 516) 

لا يخلو مسار السلطان مولاي حفيظ من دروس مليئة بالعبر. السلطان الذي بدت أفكاره ثورية وإصلاحية ومناهضة للاستعمار، انتهى به المطاف إلى وضع السلاح والتوقيع على الحماية الفرنسية باتفاق مع باقي الدول الإستعمارية (السلطة الدولية في طنجة، ثم السلطة الفرنسية في معظم تراب المغرب)، وهكذا أقبر ما أعتبر حينئذ أول دستور وحكم ديمقراطي ف المغرب. 

تراجعت فرنسا عن الكثير من المطالب التي كانت موضوع لائحة تقدم بها مولاي حفيظ، بناء على مفاوضات عسيرة، وهي اللائحة التي ننشر نصها أسفله، لكن الدولة الفرنسية ضمنت للسلطان مولاي حفيظ بعد مفاوضات طويلة وعسيرة وضعية لائقة بشخصه، حيث وضعت تحت تصرفه 500 ألف فرنك، وهذا المقدار المالي الذي اعتبره البعض في حينه بمثابة الشيك الذي دفع لسلطان الجهاد مقابل توقيعه لعقد الحماية، الشيء الذي نفاه المدافعون عنه حينما وضحوا أن المبلغ يدخل ضمن تنفيذ ما اتفق عليه من "إعطاء تسهيلات للسلطان لأداء ما تحمله جنابه بالخصوص من صوائر المحلات السعيدة أثناء الثورة.." (الحركة الحفيظية ص 539). 

وفي نفس الان فوتت له الدولة الفرنسية بعض الأملاك في مراكش (المامونية،أوغاطيم، وفي فاس عين الشيخ، تغات)، بالإضافة إلى مجموعة من الشروط التي أًر على ان تدون في عقد مكتوب، وتضمن مستقبل عائلته وفروعه، بما فيها ضمان معاش مناسب له، وحقه في التنازل عن العرش وتعيين وريث له... 

"إن الذي يملك القوة يريد في الغالب أن يمارس السلطة من دون أن يقتسمها مع غيره" 
هذا ما كتبه مولاي عبد الحفيظ في نفائح الأزهار في أطايب الأشعار وهو يتنازل عن العرش، في سابقه من نوعها في تاريخ السلاطين العلويين، فقد قال لأحد الصحافيين الذين سألوه بعد التوقيع على وثيقة الحماية عن الأسباب التي جعلته يتخذ هذا القرار:" إنني لم أكن ولن أكون سلطان الحماية، إن الأمر سيكون مخالفا لسيرتي ولحاجتي للحرية والاستقلال. إنني لا أستطيع أن أنسى، وشعبي كذلك يتذكر أنني لم أتول العرش، ولم أبق فيه إلا لكوني قمت في مراكش مدافعا عن بلدي ضد كل تدخل أجنبي. إنني لا أستطيع أن أقبل العمل ضد ضميري، وألتمس بنفسي وضع القيد الذي ثرت ضده قي رجلي".

كرونولوجيا 

1876:تلتقي رواية الكاتب الفرنسي لويس ارنو مع رواية العديد من الباحثين بخصوص ترجيح كفة ميلاد السلطان مولاي حفيظ في حوالي 1876. 

1890: ختم في هذه السنة مولاي حفيظ القران واشتهر بالقدرة الفائقة على الحفاظ والتحصيل. 

تربى الأمراء ووجد كل الظروف الملائمة للتربية والتعليم، فوالده السلطان مولاي الحسن كان من السلاطين الذين يحرصون على تربية أبنائهم وتكوينهم، وكان يخصص لهم المربين الأكفاء ويرسلهم لإستكمال خبرتهم وتعليمهم إلى البلاد التي اشتهرت بالعلم والتعليم كبلد احمر مثلا جنوب المغرب. 

24 يوليوز1904: الشيخ ماء العينين أجاز لعبد الحفيظ إجازة عامة. 

إلى حدود 1900: استقر بمدينة تزنيت كخليفة لأخيه السلطان عبد العزيز، علما أنه بايع أخاه عكس شقيقه محمد الذي نازع شقيقه مولاي عبد العزيز الملك. 

في خريف 1901: عندما قرر السلطان عبد العزيز الانتقال إلى فاس إثر إعلان الترتيب، عين أخاه مولاي عبد الحفيظ خليفة بمراكش، وقد ظل في تلك الوظيفة إلى غاية انقلابه على أخيه. 

1907: بويع سلطانا في مراكش. 

1908: اعتلى عرش المغرب بعد إعلان علماء فاس خلعهم السلطان عبد العزيز ومبايعة عبد الحفيظ. 

1912: تنازل عن العرش بعد توقيعه على وثيقة الحماية. 

مؤلفات السلطان عبد الحفيظ

له عدة مؤلفات جلها مطبوع على الحجر. 
في علوم اللغة: 
- العذب السلسبيل في حل ألفاظ خليل. 
- نظم في معاني مفردات محيط المحيط ومغني اللبيب،(1500 بيت). 
- نيل النجاج والفلاح في علم ما به القران لاح. 
يبتدئ الديوان بقصيدة عنوانها : "لسع العقارب والأفاعي في رد إفشاء من كان خبيث المساعي"، وهي قصيدة طويلة، رد فيها على اللذين اتهموه وتجنوا عليه وبرأ نفسه من تهمة الخيانة.في علوم الفقه والحديث، ياقوتة الحكام في مسائل القضايا والأحكام الجواهر اللوامع في نظم جمع الموانع. 
نظم المصالح الحديث. 
في الشعر: 
قصائد في الملحون. 
قصائد في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم). 
قصائد في انتقاد نظام الحماية الفرنسية التي وقعها. 
في الفكر والسياسة والتاريخ: 
- داء العطب قديم "مخطوط بالخزانة الحسنية، الرباط. 
- براءة المتهم. 
- إعلام الأفاضل والأكابر بما يقاسيه الفقير الصابر، ضمن مجموع بالخزانة الحسنية. 
وهي رسالة رد فيها على الذين اتهموه بالتطلع للملك سنة 1906، وهاجم فيها أخاه مولاي عمر.

حينما أرسل السلطان عبد الحفيظ اخاه لتنحية شقيقهما خليفة مراكش 

كتب المدني الكلاوي يستشير مولاي عبد الحفيظ حول محلة أخيه عمر في مراكش، فأجابه الخليفة بقوله: "فلتقدم عنده للمحلة وتلطف معه لرؤية الأمر الشريف، فإن كان صريحا بتوجهه لفاس فلا وجه للتعرض، وإذا كان القدوم لمراكش في غرض معين فقد كتبنا له بالتأخر حتى يظهر، وبينا له ما يترتب على ذلك ( الانتقال إلى مراكش) من المفاسد. حسب ما أجبناك به البارحة فأمض عليه" كما نقل علال الخديمي في كتابه الحركة الحفيظية تحت عنوان حقيقة مهمة محلة مولاي عمر (ص 123). 

ولخطورة الوضع بالنسبة لعبد الحفيظ حمل خليفة السلطان القلم وكتب أسفل الرسالة بخط يديه ما يلي: "والحاصل أن لم يساعد فامنع المحلة من القدوم جبرا، واعلم هذا وتمش عليه. وإن أراد الأخ القدوم بنفسه، فوجه معه خليفتك.. بمراكش وإياك والتراخي فإن عاقبة ما ينتج على قدومه إن تراخيت دركها عليك". 

وتقول الرواية إن مولاي حفيظ لم يسمح بانتقال محلة مولاي عمر إلى مراكش، إلا بعد أن جردها من السلاح، وبعد أن اتخذ كل الاحتياطان اللازمة. مستندات المفوضة الفرنسية بطنجة المحفوظة بمدينة نانت التي حصل عليها الدكتور علال الخديمي تساعد في حل بعض الغموض الذي اكتنف مواقف الأطراف حول عزل خليفة السلطان في مراكش لأخيه وتنصيب شقيقه عمر مكانه: "كتب الجاسوس الفرنسي في الموضوع يقول: " بعلم سيادتكم أن الكنتافي بعد وصوله لداره رجع إلى قبيلة اكركور ومعه عدد كثير من إخوانه، يعني حكومته وكتب للقبائل مثل (..) ثم فطواكة ودمنات وورزازات ومسفيوة وزمران ليأتوا بالحركة إلى مراكش، وكتب للشريف مولاي عمر يأتي من قبيلة مسفيوة ليجمعوا عليه بباب مراكش، وذلك كله بأمر السلطان لأنه كتب لهذه القبائل يمتثلوا لكل ما أمر به الكنتافي، ومقصوده يجعل الشريف المذكور مولاي عمر خليفة بمراكش ويعزل مولاي الحفيظ..." 

لم تلبث محلة عمر بمراكش إلا قليلا، ثم أمر السلطان بانتقالها لما تبين له استحالة إصابة الخليفة بمكروه، واستعصاء عزله مع الحالة المزرية التي كانت عليها المحلة المرافقة لمولاي عمر. وقد وصف عبد الرحمان بن زيدان، وهو المؤرخ واحد خبراء الأسرة الحاكمة، علاقة الأخوين بقوله: "ولم يزل يتودد ويتحبب إلى أن وجه لقضاء مأمورية بأحواز مراكش والخليفة إذ ذاك بها هو صنوه السلطان السابق مولاي عبد الحفيظ، ثم لما حل بمراكش أواه المذكور وأحسن إليه، والمترجم ينوي له النوايا السيئة ويتمنى كينونته مكانه، فصار يتربص الدوائر وينصب إليه أشراك الأذى ويبالغ في الوشاية به، والحال أن للخليفة المذكور بالبساط السلطاني عيونا تطير له الإعلام بكل شاذة وفاذة حتى إنه ربما وجهوا له مكاتيب المترجم بالوشاية للسلطان. فلما تيقن ذلك قام على ساق في التضييق به وسد دونه سائر الأبواب التي يظن وصول النفع منها إليه، حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت وباع جل أمتعته في ما يقتات به ورجع لفاس صفر الكفين لا يملك درهما ولا دينارا، ولم يزل من ذلك الوقت كمد ونكد، إلى أن أختمت أنفاسه".(5 ص500،501).

المستعمر يحضر مولاي أمحمد لخلافة السلطان عبد الحفيظ  

قضى مولاي امحمد أيام حكم أخيه السلطان عبد العزيز قبل وفاة الوزير القوي أبا حماد خلف القضبان، لأنه نازع شقيقه في الجلوس على العرش. 

وكان عليه أن ينتظر إلى غاية وفاة أبا حماد كي تفك عنه اغلال المراقبة الأمنية بعد إظهاره لعموم الشعب، بعد أن ادعى بوحمارة أنه مولاي امحمد وهو شخص واحدا. 
لكن، بعد أن بات بمقدور الأمير أن يستنشق بعضا من الهواء، فقد عانى من ضائقة مالية، وهذا ما تؤكده الرسالة التي وجهها إلى الوزير لأكبر الفصل غريط، فمن أبرز ما جاء فيها: "وبعد فلا يخفاك حالنا وما نحن عليه من العيلة" وطلب منه التدخل لدى السلطان لينفذ له ريالا مياومة من المستفاد إعانة لنا –يقول مولاي أمحمد- لأننا واقفون لباب الله". (علال الخديمي:ص 338). 

وبمجرد ما تخلى مولاي عبد العزيز عن الصراع ضد أخيه مولاي حفيظ، حتى شرعت الأوساط الاستعمارية في تهيئ البديل، الحرب الأهلية بين المغاربة، وهكذا خذ اسم مولاي أمحمد يطفون من جديد على الساحة المغربية والفرنسية ويتخذ أبعادا دعائية مضخمة. 

إذ سارعت القوى الاستعمارية إلى حث مولاي أمحمد على الثورة ضد أخيه، ففي يوم 27 غشت 1908، نشرت صحيفة فرنسية محلية le progres de LYON، حديثا مع المهندس GABRIEL VEYRE وكتبت بحروف بارزة العناوين الآتية: 

عهد مولاي احفيظ لن يضع حدا للفوضى المغربية مولاي امحمد سلطان المغرب. 

ويبدو ان الفرنسييت تدخلوا لدى مولاي عبد العزيز لتهيئ الظروف الملائمة لمولاي أمحمد، وهكذا استصدروا أمرا منه لأمناء مرسى الدار البيضاء بتنفيذ 14 ريالا مؤونة يومية لأخيه وأداء ثمن كراء محل سكناه، ونفس القدر لأخويه مولاي الزين ومولاي يوسف. 

لكن، ثورة مولاي امحمد ولدت موؤوودة، فقد فشل في فرض كلمته حينما خرج من الدار البيضاء بتاريخ 25 نونبر تصحبه حراسة عسكرية. إذ فوجئ ومن معه بالقوة المخزنية الموالية للسلطان في شخص الحاج بنعيسى. 

وقد خدم فشل مولاي أمحمد السلطان مولاي عبد الحفيظ، فهكذا ازداد نفوذه، وارتفع منسوب هيبته، خاصة بعد خروج السلطان إلى الدار البيضاء التي أعلنت بيعتها له.

مولاي عبد الرحمان ينازع مولاي حفيظ السلطنة 

هو ثالث أبناء مولاي الحسن بعد مولاي أمحمد ومولاي عمر،اسمه الحقيقي مولاي عبد الرحمان، وكان يلقب بالكبير/ نشأ نشأة الأمراء وأرسل للدراسة بالحوز صحبة أخيه عبد الحفيظ بقبيلة حمر. 

أما سر الحظوة التي كان يتمتع بها منذ صغره، فهو النفوذ الكبير الذي كانت تملكه أم مولاي الكبير في بلاط مولاي عبد العزيز، وتحكي الروايات أن مولاي الكبير إلى عائلة أولاد الضاوية بالغرب، وهي عائلة غنية تولى أفرادها أمانة القبائل، وهذه الأملاك العائلية المتراكمة هي التي ساعدته في تمويل تمرده على أخيه. 

يصفه المختار السوسي في كتابه الشهير على مائدة الغذاء "بصاحب الأمر العجيب والغريب" (ص 36-37). 

إن مصدر الغرابة كما يؤكده المختار السوسي في شخصية الأمير الكبير، هو الذي جعله، عكس مولاي حفيظ الذي بايع شقيقه الصغير دون تردد، يبدي معارضة قوية لما فعله أبا حماد، وهو الموقف الذي لم يتخلص منه أبا حماد إلا بالتقرب من الشقيق الثائر للسلطان المحجور عليه، إلى أن حصل على موافقته. 

تمرد مولاي الكبير على أخيه بعد نكبة الشيخ الكتاني مباشرة، وقدم نفسه كبديل عن سلطان الجهاد، الذي لم يكد بعد يتلذذ بممارسة السلطة. 

فقد جاء في برقية بعثها المكلف بالأشغال الفرنسي إلى وزير الخارجية بتاريخ 4 ماي 1909، أي في اليوم التالي لاختفاء مولاي الكبير ما يلي: 

إن قنصلنا بالدار البيضاء قد أبرق إلى اليوم مخبرا بأن مولاي الكبير هرب إلى زمور وزعير لأجل أن يبايع سلطانا". 

ولما لم ينجح الأمير المتمرد في استمالة الناس في زعير وزمور، لأن السلطان ضيق الخناق عليه حينما دفع المال لبعض من قواد أزمور، فقد لجأ إلى زيان وحاول الاتصال على الأقل بالقائد الشهير موحا وحمو الزياني يهدف الحصول على ولائه وتأييده، لكن هذا الأخير رفض عروض الأمير المتمرد، كما ينبئنا بذلك علال الخديمي. 

في نفس الآن ضيق السلطان على المقربين منه مثل أمه وصادر كل أملاكه خاصة الموجودة بالغرب. 

ومهما يكن، فإنه رغم المد والجزر الذي عرفته تحركات الأمير المتمرد، فقد ثبت انه قد بويع من طرف قبائل البرانس والتسول، وإلى حدود ماي 1910 كانت محلاته اكثر من ناجحة، إذ انضمت إليه قبائل عديدة بما في ذلك قسم من الحياينة، لدرجة أنه أخذ يضيق على محلات شقيقه السلطان. 

لكن، مرة أخرى سينتصر السلطان مولاي حفيظ على رابع إخوانه الذين تصارعوا معه للجلوس على أريكة الملك. 
إذ تمكنت القوات المخزنية من تضييق الخناق على أتباع الثائر الثري والمدعم بأموال والدته، وأرغمت القبائل على الدفع المفروض عليها والتراجع عن تأييد الأمير المتمرد. 
وفي يونيو 1910 اشترط مولاي حفيظ على قبائل التسول والحياينة تسليم أخيه مقابل الأمان وعدم الانتقام منهم. 

وما كادوا يسلمونه، حتى طلب الأمير الثائر نفسه من شقيقه الأمان، بعد أن تبين له أن هلاكه بات وشيكا، وتقول الرواية الأولى إن السلطان قبل طلبه، فما تقول الرواية الثانية إن الجالس على السلطنة أصر على اعتقاله وإبعاده إلى فاس.

السلطان الذي بويع بيعة مشروطة 

لم يذكر التاريخ السلطان مولاي حفيظ، فقط لأن شخصيته كواحد من حفدة الأسرة الملكية التي حكمت المغرب كانت قوية ومتميزة، أو لأنه ناهض المستعمر فحسب، ولكن أيضا لأن عهده عرف ميلاد أول لبنة لدستور يمكن القول إنه مبني على الشورى. فالبيعة الفاسية التي ارتبطت بشروط، تعتبر اللبنة الأساسية التي اكتمل بها بناء الانقلاب الحفيظي على شقيقه مولاي عزيز. 

فقد نشأت بالمغرب في العقد الأول من القرن العشرين حركة فكرية تتطلع –حسب الأستاذ الباحث ووزير الأوقاف الحالي في كتابه تأملات في البيعة الحفيظية- إلى سلطنة "دستورية"، وصدرت عن بعض من كانوا يمثلون هذه الحركة إنشاءات وتجارب لصياغة نماذج من القوانين المقيدة للحكم أو المصممة لمهامة وعلاقاته بالمحكومين، وإذا كان الغموض يكتنف أخبار هذه الحركة العامة ومشاربها، حسب نفس المصدر، فإن ما حرره أشخاص بأعينهم في هذا الموضوع لا يدع مجالا للشك في أن عددا من الرجال الواعدين بأوضاع المغرب في مواجهة التأمر والضغوط الاستعمارية، المحللين لأسباب الضعف، الباحثين عن وسائل تفادي السقوط المحتوم، كانوا يربطون تصور الخلاص بقيام نظام شوري للحكم،. (مداخلة ذ. التوفيق في الجامعة الصيفية في يوليوز 87 "المغرب من العهد العزيزي إلى سنة 1912 منشورات جامعة الحسن الثاني). 

وقد أحدثت البيعة الفاسية للسلطان عبد الحفيظ التي جاءت متأخرة عن البيعة المراكشية- حسب علال الخديمي- نقلة نوعية وموضوعية في نص البيعة التقليدية بالمغرب، إذ أكدت على أمل الأمة في الإصلاح، وسطرت أهم الشروط التي يتوقف الإصلاح على تنفيذها. 

فجاءت البيعة الفاسية- والحالة هذه- متفردة، ولذلك أثارت ما أثارت من جدال حول شروطها وعواقبها وحول أهميتها التاريخية، كميثاق دستوري ونص معرفي، اعتبره الكثيرون تفجيرا في وقت مبكر لوعي الشعب المغربي، وتأكيدا على ضرورة الإصلاح الدستوري والديمقراطي، كأساس لا غنى عنه للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، الذي يتطلع له في مواجهة التحديات الأجنبية المتعاظمة.

هل باع السلطان مولاي حفيظ المغرب بـ500 ألف فرنك؟

غلب الخوف والاضطراب على السلطان الجهاد، وهو يقيل على التوقيع على عقد الحماية ليلة 30 مارس 1912، إذ بدأ مترددا والعرق يتصبب من جبينه، فبين الرغبة في مواصلة مسيرة الجهاد، الشيء الذي كانت تنقصه مقومات النجاح، وبين اليأس وتراجع الفرنسيين عن بعض من تعهداتهم، لا سيما على مستوى الأملاك المخزنية التي تسابق المخزن والفرنسيون للاستحواذ على أكبر قدر ممكن منها، بين هذا وذاك وقع السلطان مولاي حفيظ على وثيقة الحماية. 

ففي الوقت الذي سرع السلطان من وتيرة إصدار ظهائر فوت من خلالها بعض الأملاك في فاس ومراكش لبعض المقربين منه، لاسيما وأنها كانت موضوع اتفاق بينه وبين الفرنسيين، سارعت الأوساط الاستعمارية إلى معارضة قرارات السلطان، متهمة إياه بتفويت الأملاك المخزنية حتى لا تجد الدولة الحماية أي شيء تستولي عليه. 

وقد ترتبت عن المفاوضات التي بوشرت بين الحماية الفرنسية والسلطان مولاي حفيظ عن لائحة طويلة من المطالب حاول من خلالها السلطان حماية مصالح أسرته ومستقبلها ومصير أملاك السلطان الخاصة، وإذا كان الاتفاق الفرنسي الألماني قد منح فرنسا حق الشروع في احتلال المغرب، وتراجعت فرنسا عن الكثير من بنود الاتفاق الذي باشر المفاوضات بشأنه السلطان مع الجانب الفرنسي عبر وزير محمد المقري، فإن السلطان وقع على وثيقة الحماية بعد أن ضمن وضعية لائقة بشخص الملك وحماية أسرته، بما فيها أداء ديونه الخاصة، وضما حقه في التنازل عن العرش. 

بدا السلطان مولاي حفيظ حذرا وهو يتسلم الشيك من ليوطي. كان على السلطان أن يحصل على الشيك الفرنسي الموقع، وأن يحصل ليوطي بالمقابل على وثيقة الحماية الموقعة التي ضمنت للسلطان التنازل عن العرش، وللحظة كان كل واحد منهما يمسك بطرف من الوثيقتين المتبادلتين بينهما، أكثر من هنيهة، أزيد من ثانية ساد خلالها الصمت، وطغت عليهما الريبة والشك. 

كلاهما كان يرتاب محتفظا بطرف الوثيقة التي تعود إليه، خشية ألا يواصل الطرف الاخر عملية تبادل الوثيقتين. 

إنه الوصف الذي قد لا يخلو من ذاتية واستعلاء كولونيالي، والذي سينقله الكااتب والصحافي المتخصص في المغرب شارل أندري جيليان في كتابه "المغرب في مواجهة الإمبريالية" اعتمادا على رسالة ليوطي المؤرخة في 13 غشت 1912. 

(جوليان:1956-1415 الطبعة 1978 الصفحة 89). 

كتب الكثير عن شخصية السلطان، لكن تظل أكثر الروايات مدعاة للإثارة، تلك التي وجد فيها نفسه مجبرا، كما يفسر في كتابه "داء العطب قديم"، على توقيع وثيقة البيعة. 
فأقصى لحظات الغضب التي عاشها السلطان مولاي حفيظ، تلك التي سينتقل فيها من سلطان للجهاد إلى موقع على عقد البيعة. 

يحكى أن السلطان كسر –عشية الحماية- المظلة التي كان يستظل بها، وهي المظلة من دلالات رمزية مخزنية، وهو الحادث الذي كذبه المقيم العام حينئذ حتى لا يناقض الرواية الفرنسية الرسمية، التي تؤكد أن السلطان وقع على شروط الحماية دونما أي اعتراض، وهي الإشارة التي وردت سريعة في كتاب "المغرب في مواجهة الإمبريالية" لصاحبه شارل أندري جيليان (ص:90). 

ثمة أكثر من رواية تجسد الغضب الجارف الذي استبد بسلطان الجهاد، وبشخصية القوية عشية توقيع عقد الحماية، نفس الكتاب الفرنسي يشير إلى أن مولاي حفيظ أحرق الاحتفالات التي كانت تغطي رأسه، وقد نصبت خصيصا في أحد الاحتفالات الرسمية، وأنه ظل يعض بعض أصابع الندم لأنه لم ينجح في المفاوضات التي كان يمكنها أن تجعل رحيله بلا خسارات انزلته من منزلة الموقع على البيعة، ودون ان تلتزم فرنسا بالشروط التي طلبها لتأمين مستقبل أسرته وتحصين مكانته (نفس المرجع ص 90). 
ولكي تتضح الصورة أكثر، ننشر الفصول الـ27 التي تضمنتها المذكرة المغربية المعدلة والمستعملة على مطالب السلطان مولاي حفيظ، كما وردت في كتاب"لحركة الحفيظية " (من ص 521 إلى ص 524). 
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -